نشأة الخط العربي وتطوره عبر التاريخ







نشأة الخط العربى وتطوره عبر التاريخ



بقلم


 الدكتور  عثمان عبد السلام الثقافي
المحاضر بقسم اللغة العربية, جامعة إلورن, ، نيجيريا. 

1- تـمهيـد
يعتبر فن الخط علما جليلا من العلوم العربية لأنه لا يقتصر على تصوير حروف الكلمات العربية وإعجامها وتشكيلها على وجه فنى جذّاب فحسب بل تحوي مباحثه- علاوة على ذلك- أصول الكتابة وقواعد الإملاء التى يفرض على الكاتب أن يراعيها في رسم المفردات والمركبات من الكلمات العربية. وقد يؤخذ على الخطّاط إذا خرج على قاعدة من قواعد رسم الحروف كما يثنى عليه إذا أجاد الكتابة وراعي قوانينها في خطّه. فالخطاط الذي لا يراعى قواعد الإملاء في خطّه كالخطيب الذى يلقى خطبته أو الشاعر الذي ينشد شعره أو الكاتب الذى ينشئ مقالته أو رسالته بدون مبالاة بقوانين الصرف والإعراب. وتنويها بشأن الخط وإظهارا لأهميته أغار علماء اللغة وأنجدوا في أمره حتى استنبطوا أصوله ووضعوا طرقا عديدة لتطبيقها. وفي بيان قيمته ومكانته بين العلـوم العربية يقول الدكتور عبد الله بن علي الشلال وآخرون:
الخط العربى من أبرز فنوننا الجميلة التى تميّزت بها ثقافتنا العربية والإسلامية وأصبح فنا أصيلا له أهميته بين الفنون. وللخط دور حيوي وأثر بالغ في التفاهم والمعرفة وتجسيد الأفكار وإبراز المشاعر. والخط الجميل ينبئ عن ذوق صاحبه ويشهد على موهبته قال شاعر: 
الخط يبقى زمانا بعد كاتبه ** وصاحب الخط تحت الأرض مدفون
لقد أصبح الكثير منا لا يهتمّ بأصول الكتابة وقواعد الإملاء، ولا يكترث بالنقط ولا يفرّق بين همزة الوصل وهمزة القطع، إضافة إلى الالتزام بنظام السطر. فتجده يستقيم على السطر في أوله ثم يعلو وينخفض أو يهبط ثم يصعد فضلا عن الكتابة في الهوامش. والخط والإملاء صنوان لا ينفرد أحدهما عن الآخـر. والواجب يقتضى أن نهتم بسلامة كتابتنا إملاء وخطا فإن ذلك يساعد على فهم المعنى علاوة على إمتاع النظر وإراحة النفس وجذب المشاهد.(1) 
كفى بهذا النص دليلا على أهمية الخط الكتابى في المجتمع المتحضّر لأنه مما يختص به الإنسان دون سائر الحيوانات. وأما تعريفه فقد تناوله علماء اللغة في مختلف مؤلفاتهم وعرّفوه بألفاظ مختلفة لكشف النقاب عن حقيقته. ونذكر منهم الإمام جمال الدين عثمان بن عمرو المعروف بابن الحاجب (570-646ه‍‍) الذى عرّف الخط بقوله: "الخط تصوير اللفظ بحروف هجائه"(2) ثم قال: "والأصل في كل كلمة أن تكتب بصورة لفظها بتقدير الابتداء بها والوقف عليها".(3)
فابن الحاجب بهذا التعريف يفيدنا علمًا بأن الخط عبارة عن رسم الكلمة بحروفها الهجائية التى وضعت لها العرب في لغتهم. فمن كتب أية كلمة بغير حروفها المعروفة فهو مخطئ لا يعدّ من الكتاب الماهرين.
ثم عرّفه ابن خلدون بقوله: "هو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالّة على ما في النفس فهو ثانى رتبة عن الدلالة اللغوية".(4)
فالمفهوم من هذا التعريف أن الخط هو رسم الحروف التى تدل على الكلمات المسموعة من العرب الدالة على ما في النفس من معان وأنه بالمنـزلة الثانية من الدلالة اللغوية لفظا كانت أو غير لفظ.
وخلاصة القول هي أن الخط عبارة عن رسم حروف الكلمات المفردة أو المركبة المسموعة بدقة. وأسماء هذا الفن كثيرة وأشهرها (قواعد الإملاء) و (رسم الحروف)، و (ضبط الهجاء)، و (أصول الكتابة)، و (فن الخط)، و (أدب الكاتب) وكلها تسميات تدل على مدلول واحد.(5) وله مصادر عديدة وأبرزها مباحث النحو والصرف وخط المصحف العثماني ومتن اللغة. وأهم مباحثه ثلاثة: تاريخ الخط العربى(History of Arabic Calligraphy)، وقواعد الإملاء والكتابة (Orthography) وعلامات الترقيم (Punctuations). ومما لاشك فيه أن مباحث هذا الفنّ كثيرة إلا أنها مبعثرة في أمهات الكتب، بيد أني أريد أن أعرض الجانب التاريخى منها على سبيل الاختصار لإلقاء الضوء على المراحل التى مرّ بها الخط العربى حتى بلغ أوج مجده عبر العصور كما سترى في نقاط آتية.

2- تاريخ الخط العربى من العصر الجاهلى إلى العصر الإسلامي الأول
1:2 نشأة الإبجدية الأولى في العالم
سلك علماء اللغة طرائق قددا في البحث عن نشأة الخط والأبجدية في العالم. وعلى سبيل المثال فإن المؤرخين الذين درسوا أيام الأمم القديمة وآثارهم ونقوشهم أثبتوا بعد دقة الاستقراء أن أول من اخترع الأبجدية في العالم هم الفينيقيون الكنعانيون من نسل سام بن نوح عليه السلام في عصر حيرام ملك بيبلوس (وبلادهم اليوم واقعة في بيروت لبنان) سنة 1300 قبل الميلاد، وأن اليونانيين تبنّوا تلك الأبجدية سنة 1000-800 قبل الميلاد، وأن أبجديتهم صارت مصدرا لكل الكتابات الأبجدية العالمية.(6) وقد تأثرت بتلك الأبجدية جميع اللغات السامية من آرامية وسريانية وكلدانية وعبرانية وعربية، كما تأثرت بها اللغات اللاتنية من يونانية ورومية وإيطالية وفرنسية وبرتغالية وأسبانية وإنجليزية وغير ذلك من اللغات العالمية. 

2:2 نشأة الخط الحميري بحنوب الجزيرة العربية في الجاهلية
مما لا اختلاف فيه بين علماء اللغة أن عرب الجنوب بشبه الجزيرة العربية، وهم القحطانيون اليمنيّون، قد وضعوا الحروف الحميرية التى كانوا يكتبون بها وشاع استعمالها في بلاد العرب أيّام ازدهار دولتهم قبل سقوطها. ومما يستدل به على ذلك ما ورد في مقدمة ابن خلدون حيث يقول:
وقد كان الخط العربى بالغا مبالغه من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة لما بلغت من الحضارة والترف. وهو المسمى الخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذز نسباء التبابعة في العصبية والمجددين لملك العرب بأرض العراق، ولم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة لقصور ما بين الدولتين، وكانت الحضارة وتوابعها من الصنائع وغيرها قاصرة عن ذلك. ومن الحيرة لقنه أهل الطائف وقريش.(7)   
فمفاد هذا النص أن أقدم خط عربى هو الخط الحميري الذى انتقل من اليمن إلى العراق ومن العراق وصل إلى الطائف ومكة، وكان معروفا في أوساط بلاد العرب وخارخها في الجاهلية، إلا أن فريقا من علماء اللغة رغم اعترافهم بذلك الخط قرروا بالشواهد من الآثار أن اللغة الحميرية تختلف عن العربية العدنانية وأن حروفها تختلف عن الأبجدية العربية الكلاسكية التى ظهرت قبيل الإسلام، وخلاصة ما يقولون أن أحرف الكتابة في الحميرية والحبشية تكاد تكون واحدة من شدة التشابه.(8) وبناء على ذلك نكون على الصواب إذا قلنا بأن الخط الحميري وإن كان عربيا قد اندثرت آثار حروفه قبل ظهور الأبجدية العربية النموذجية التى شاع استعمالها قبيل الإسلام.

3:2 الخط النبطي (العربى) بشمال الجزيرة العربية
أفادنا الأستاذ مصطفى صادق الرافعى علما بأن بشمال الجزيرة العربية دولا عربية متحضرة كممالك الأنباط والتدمريين في أوائل القرن الرابع قبل الميلاد إلا أن لغتهم غثّة غير فصيحة فصاحة العدنانية، وأنهم كانوا يكتبون باللغة الآرامية التى خلفت البابلية فى مدونات السياسة والتجارة لأن الأحرف العربية لم تكن وضعت يومئذ.(9) ثم قال:
وقد حمل تاريخ النبط منذ صارت مملكتهم ولاية رومانية في أوائل القرن الثاني للميلاد ونبه من بعدهم تاريخ التدمريين وهم عرب أيضا حذوا حذو النبط في استعمال الكتابة الآرامية ووجد العلماء في آراميتهم صبغة ضعيفة من العربية ما يدل على أنها بسبيل من عربية من قبلهم لا أثر فيها لأحكام البداوة ولا للغريزة الصحيحة... وثم كتابة أخرى وجدوها على قبر امرئ القيس بن عمرو من ملوك اللخميين الذين كانوا يتولون للفرس ومقرهم الحيرة على أطراف العراق ولكنهم اكتشفوا هذا القبر بين آثار الغساسنة في حوران وهم الذين كانوا يتولون للروم على مشارف الشام والكتابة بالحرف النبطى ويؤخذ منها أنها كتبت سنة 328 للميلاد وهي لغة عربية تشوبها صبغة آرامية.(10)
فأحسن ما يستنتج من هذه النصوص أن العرب بشمال الجزيرة العربية متحضرون وأنهم كانوا يكتبون ما يريدون تدوينه بالأحرف الآرامية في بداية أمرهم ثم اشتقوا أبجديتهم النبطية من الآرامية. وكتابتهم تلك هي أقدم ما يمكن أن يسمى بالمخطوطات العربية في ذلك العصر.

4:2 نشأة الأبجدية العربية النموذجية قبيل الإسلام
أفادنا أبو عمرو الدانى علما بأن الخط العربى النموذجى قد نشأ وانتشر فى بلاد العرب قبل ظهور الإسلام عن طريق الرواية حيث يقول:
عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري عن أبيه زياد بن أنعم قال: قلت لعبد الله بن عباس: معاشر قريش هل كنتم تكتبون فى الجاهلية بهذا الكتاب العربى تجمعون فيه ما اجتمع وتفرقون فيه ما افترق هجاء بالألف واللام والميم والشكل والقطع وما يكتب به اليوم قبل أن يبعث الله النبي ؟ قال: نعم.(11)
والأستاذ جيرهارد أندرس المستشرق الألمانى الذى كان من كبار علماء اللغة الذين درسوا النقوش والآثار القديمة بطريقة علمية حديثة قد أفادنا علما بأن الخط العربى النموذجى يمكن أن يرجع تاريخه إلى منتصف القرن الرابع بعد الميلاد بقوله:
ويمكن أن نؤكد باختصار أن الخط العربى- مع افتراض الأصل النبطي- نشأ بعد منتصف القرن الرابع بعد الميلاد وقبل سنة 512م (تاريخ نقش زبد) وأنه كان معروفا في الحجاز وفي الحيرة حوالى منتصف القرن السادس. ووجدت رسوم الحروف الأساسية للخط العربى كاملة بذلك الشكل الأقدم لها ثم استمرت فى التطور من جهة حسن الخط فى الزمن التالى وميزت بينها علامات مميزة غير أنها لم تتغير بعد تغيُّرا جوهريًا.(12)
ثم ذكر المورّخون أن هذا الخط جاء إلى مكة والطائف من العراق عن طريق التجارة التى كان قريش يمارسونها مع سكان تلك المدن(13) إلا أن المخطوطات العربية قليلة جدًّا لقلة دواعيها ساعتئذ. ومن الجدير بالملاحظة مما ذكروه أن الكتابة العربية الجاهلية كانت خالية من الحركات والنقط(14) (التشكيل والتنقيط) كما كان الخط النبطى الأم، وكذلك كانت حروفها مرتبة ترتيبا أبجديا (حساب الجمل المشهور).

5:2 كتابة القرآن الكريم وجمعه في العصر الإسلامى الأول
نزل القرآن منجما أي جزءا بعد جزء حسبما كان تقتضيه الحاجة خلال ثلاث وعشرين سنة. وكان النبي  شديد الحرص على تدوينه خوفا عليه من الضياع، وكان له من صحابته كتّاب يكتبون له الوحى كلما نزل عليه في العسب (أي جريد النخل)، واللخاف (وهي صفائح الحجارة) وفي الرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف حتى بلغ الوحي نهايته بوفاته.(15) ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن القرآن المكتوب في عهد الرسول  في تلك المواد المتفرقة لم يحمع فى مصحف واحد عندما كان علي قيد الحياة. 
ولما قبض النبي  وارتدّ بعض المسلمين نهض أبوبكر بقتال المرتدين، ومن حروب الردة وقعة أهل اليمامة حيث استشهد كثير من القرّاء فخاف سيدنا عمر رضي الله عنه فاقترح على الخليفة أبىبكر رضي الله عنه أن يجمع القرآن في مصحف واحد، فتردد أبوبكر في ذلك ثم استحسن الرأى فأمر زيد بن ثابت كاتب الوحي أن يجمعه بالتعاون مع غيره من حفاظ القرآن، فكتبه زيد في صحف بإخلاص وأمانة. وكتم أبوبكر هذه الصحف عنده حتى توفي(16)، فانتقلت إلى عمر رضي الله عنه وظلت معه طيلة خلافته، ثم انتقلت إلى بنته حفصة زوج النبي  إلى عهد سيدنا عثمان بن عفان.
ولما حدث اختلاف شديد فى قراءة القرآن في الشام والعراق وكان حذيفة بن اليمان يغازي أهل الشام فى فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ساعتئذ وفزع من ذلك الاختلاف قدم إلى سيدنا عثمان رضي الله عنهما وأشار عليه بأن يجمع القرآن في مصحف واحد كيلا يختلف المسلمون فى الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل سيدنا عثمان رضي الله عنه إلى أم المؤمنين حفصة زوجة النبي  أن ترسل إليه بالصحف التى كانت عندها، فأرسلت بها حفصة إليه، فأمر عثمان رضي الله عنه زيد بن ثابن وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن حارث فنسخوها في المصاحف، فأرسل بها إلى البصرة والكوفة وإلى الشام والعراق وإلى اليمن والبحرين ومكة وحبس مصحفا منها بالمدينة وهو مصحفه الذى يسمى "مصحف الإمام" ثم ردّ الصحيفة إلى حفصة كما أخذها ثم أمر بإحراق المصاحف التى هي محل الاختلاف والتفرقة بين الناس بعد تشاوره مع كبار الصحابة رضي الله عنهم.(17) 
ومما ينبغى أن نلفت إليه النظر أن القرآن المكتوب فى موادٍّ من اللخاف وعظام الأكتاف والرقاع والعسب فى عهد النبي  والذى أعيدت كتابته فى الصحف فى عهد سيدنا أبىبكر رضي الله عنه والمصحف العثمانى الذى أرسلت نسخ منه إلى الأمصار والنسخ التى استنسخها الناس منها فى المدن الأخرى كلها جميعا كانت مجرَّدة من الحركات والنقط كما كانت الكتابة الأم فى العصر الجاهلى. وكما يقال فى خط المصحف يقال فى خط الرسائل التى بعث بها النبي  إلى النجاشى ملك الحبشة، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى قيصر ملك الروم، وإلى المقوقس عظيم القبط وغير ذلك من الرسائل. وكذلك يقال أيضا في كتابة رسائل الخلفاء الراشدين فى أيّامهم.

3- إصلاح الخط في العصر الأموي
1:3 تنقيط الإعراب
لما تولى الأمويون الخلافة كان أمر الخط العربى يجرى كما كان فى عهد الخلفاء الراشدين. ولما دخل الأجانب الإسلام وبدأ اللحن يظهر فى قراءة القرآن حتى تأثر أنباء العرب بالبيئة الجديدة أمر زياد بن أبيه وإلى البصرة (من قبل الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبى سفيان) أبا الأسود الدؤلى بوضع علم النحو لصون اللسان من الخطإ فى قراءة القرآن الكريم، فقام بوضع النقطة فوق الحرف دليلا على الفتح والنقطة تحت الحرف دليلا على الكسرة والنقطة بجانب الحرف دليلا على الضم، وإن تبع الحرف غنة (تنوين) جعل النقطتين فى تلك الأحرف. وكل ذلك بلون يختلف عن لون المداد الذى كتب به المصحف فى جميع آياته.(18) وقال جرجى زيدان بأن السريان هم أول من وضع الشكل فاقتدى بهم العرب فى ذلك. والنقطة المهمة التى يجدر بنا أن نلتفت إليها هى أن الحركات الثلاث- فتحة وكسرة وضمة جزء مهمّ من أجزاء الأبجدية. وقد استبدلها الخليل بن أحمد الفراهيدي بالحركات القصيرة المألوفة كما سيأتى في الفصل الرابع من هذا البحث في الفترة العباسية.

2:3 تنقيط الإعجام
هو الذى ظهر في زمن خلافة عبد الملك بن مروان 65-86ه‍ كما أشار ابن خلكان فى كتاب التصحيف حيث يقول:
إن الناس غبروا يقرءون فى مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه نيفا وأربعين سنة إلى أيام عبد الملك بن مروان ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق ففزع الحجاج بن يوسف إلى كتّابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المتشابهة علامات، فيقال: إن نصر قام بذلك أفرادا وأزواجا وخالف بين أماكنها فغبر الناس بذلك زمانا لا يكتبون إلا منقوطا.(19)
وإضافة إلى ذلك فإن الأستاذ مصطفى صادق الرافعى يوضح بأن نصر بن عاصم الليثى البصرى ويحيى بن يعمر العدوانى هما أصلحا الأبجدية العربية بتنقيط بعض حروفها المتشابهة وميّزا بينها بإعجامها وإزالة اللبس عنها ثم رتّباها ترتيبا هجائيا مألوفا اليوم حيث يقول:
أما الحروف العربية فهى المعروفة اليوم بالحروف الأبجدية أو ألف باء ولم يكن هذا الترتيب الهجائى من قبل، وإنما هو ترتيب نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر العدوانى فى زمن عبد الملك بن مروان حين بدئ فى إصلاح الخط وتمييز الحروف والحركات... وكانت قبل ذلك على ترتيب "أبجد هوز" المعروف وهو ترتيب السريانية والعبرانية.(20)
هنا يتجلى لنا أن الحروف العربية المتشابهة التى كان العرب يكتبون بها إلى أوائل العصر الأموي قد تميزت بعضها عن بعض بعلامات مميزة فى زمن الخليفة عبد الملك بن مروان وواليه الحجاج بن يوسف الثقفى. وكذلك بدأ الترتيب الهجائي الجديد كما نراه واضحا فى معجم أبى عمرو الشيبانى المتوفى (206ه‍ أو 213ه‍) المسمى كتاب "الجيم" لأنه رتّب الألفاظ فيه ترتيبا جديدا كما وضعه نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر العدوانى فأخذ أصحاب المعاجم يقتدون به فى معاجمهم. فها نحن نعرض الترتيبين القديم والجديد كما يلى:
الترتيب القديم عند علماء الشرق الإسلامي:
أبجد   هوز  حطي   كلمن  سعفص  قرشت  ثخذ ضظغ.
والترتيب القديم عند علماء المغرب والأندلس:
أبجد  هوز   حطي  كلمن  صعفض  قرست  ثخذ  ظغش
وترتيب حروف الإعجام عند علماء الشرق الإسلامي:
أ     ب     ت     ث     ج     ح     خ     د     ذ     ر     ز     س     ش     ص   ض    ط     ظ    ع     غ     ف     ق     ك     ل     م     ن     و     ه‍        ي (فالواو قبل الهاء هنا)
وترتيب حروف الإعجام عند علماء المغرب والأندلس:
أ     ب      ت     ث     ج     ح     خ     د      ذ     ر     ز     س     ش     ص   ض     ط     ظ     ع     غ     ف     ق     ك     ل     م     ن     ه‍     و      ي (فالهاء قبل الواو هنا)(21) 

4- تحسين الأبجدية فى العصر العباسي 
لما جاء العصر العباسى طرأت تطورات جديدة على الخط العربى على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي شيخ سيبويه. وذلك أنه قدّم رموزا جديدة لإكمال الحروف الهجائية، منها استبدال النقاط التى وضعها أبو الأسود الدؤلى للحركات بالألف الصغيرة للفتحة والياء الصغيرة للكسرة والواو الصغيرة للضمة ( اَ  اِ  اُ ) وفي حالة التنوين وضعها هكذا ( اً  اٍ  اٌ ) وجعل (ش) الصغيرة (بدون تنقيط) علامة تضعيف أو تشديد الحرف، وجعل رأس (ص) علامة صفر على الألف التى لا ينطق بها. ثم جعل رأس (ع) رمزا للهمزة(22) بيد أن كثيرا من الناس كانوا يستنكفون أن يدخلوا هذه الرموز على المصحف العثمانى، ثم رجعوا إليها لما رأوا كبار الكتّاب يأخذون بها فى كتابة نصوصهم العلمية وفى كتابة المصحف الشريف أيضا وجمعوا بين العلامة التى وضعها للهمزة وبين رمزها القديم كما أثبت ذلك الأستاذ إبراهيم مصطفى حيث يقول:
الهمزة مثلا اتخذت كتّاب المصاحف فيها طرقا متعددة ورسموها كالرقم (7) في مثل "يستهزيـ ون" واستمر هذا إلى أن جاء الخليل بن أحمد فوضع رمزا جديدا للهمزة حيث اقتطع رأس العين (ع) لقرب الهمزة منها وجعلها رسما للهمزة وكتبها قطعة وشاع رسم الهمزة الجديد ولكن أبى الناس زمنا أن يدخلوا رسم الخليل على المصحف ورأوه بدعة على أنه لم يلبث أن شاع وكتبه كتبة المصاحف ولكن مع بقاء الكتابة الأولى فكتبوا "يستهزئون بياء وهمزة من حققها وبالياء والواو من سهلها. وكان هذا أصل الازدواج فى كتابة الهمزة.(23)
ثم اعتبر العلماء الحرف المركب لام ألف (لا) الحرف التاسع والعشرين من الحروف الهجائية كما قال القلقشندى لما رواه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال:
سألت رسول الله  فقلت: يا رسول الله، كل نبي مرسل بم يرسل؟ قال: بكتاب من‍زل. قلت: يا رسول الله، كم حرف؟ قال: تسع وعشرون. قلت: يا رسول الله، عددت ثمانية وعشرين، فغضب رسول الله  حتى احمرّت عيناه، ثم قال: يا أبا ذرّ، والذى بعثنى بالحق نبيا ما أنزل الله تعالى على آدم إلا تسعة وعشرين حرفا قلت: يا رسول الله فيها ألف ولام، فقال عليه السلام: لام ألف حرف واحد، أنزله على آدم في صحيفة واحدة، ومعه سبعون ألف ملك، من خالف لام ألف فقد كفر بما أنزل على آدم! ومن لم يعدّ لام ألف فهو بريء منى وأنا بريء منه ومن لم يؤمن بالحروف وهي تسعة وعشرون حرفا لا يخرج من النار أبدا.(24)
وبهذه التطورات صار الترتيب النهائى للحروف المعجمية كالآتى:
ا     ب     ت     ث     ج     ح     خ     د     ذ     ر     ز     س     ش  ص   ض    ط     ظ      ع     غ     ف    ق     ك     ل     م     ن     ه‍   و    لا     ء      ي

5- أقسام الخط وأنواعه:
ينقسم الخط العربى منذ نشأته إلى قسمين، وهما: الخط اليابس والخط اللين. فاليابس هو الخط الكوفى الذى اقتبسه الكوفيون من الخطوط القديمة المستخدمة من العصر الجاهلى إلى العصر الأموي.
وأما اللين فهو أنواع: وأبرزها النسخ والثلث والفارسي والديوانى والرقعة والخط المغربى. وقد تفنن الخطاطون فى اشتقاقها فى الأقطار التى فتحها المسلمون. فالنسخ والثلث ظهرا فى العراق كما ظهر الفارسى فى إيران والهند والرقعة والديوانى فى تركيا والخط المغربى فى شمال أفريقيا والأندلس. وفيما يلى نماذج من هذه الخطوط عبر العصور كما عرضها الدكتور صلاح حسن وشركاؤه:(25)
أولاً: الخط الكوفى: وهو الخط الذى حمله الفاتحون إلى البلدان المفتوحة فى صدر الإسلام ومن نماذجه:
بسم الله الرحمن الرحيم
ثانيًا: الخط الفارسي
وهو الذى اشتقته الفرس بعد فتح العرب لبلاد فارس. ومن نماذجه:
بسم الله الرحمن الرحيم
ثالثًا: خط الرقعة
قد نشأ هذا الخط في عهد السلطان محمد الفاتح، وهو خليط يجمع بين حروف خط النسخ والديوانى الدقيق القديم، وربما كانت تسميته بالرقعة نسبة إلى قلم الرقعة الذى كان يكتب به هذا النوع من الخطوط، وهذا نموذج له:
بسم الله الرحمن الرحيم
رابعًا: خط النسخ
وسمي بالنسخ لأن الكتّاب كانوا ينسخون به المؤلفات، وقد نشأ بالشام، ومن نماذجه:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ربّ العالمين الرحمن الرحيم
خامسًا: الخط الديوانى
وهو الخط الذى يختص بالكتابات الرسمية فى ديوان الدولة العثمانية، ومن نماذجه:
بسم الله الرحمن الرحيم
سادسًا: خط الثلث
من الخطوط الصعبة إذ لا يعتبر الخطاط خطاطا إلا إذا أتقنه، ويعبر عنه بأم الخطوط، وسمى بذلك لأن قلم الطومار وهو أجل الأقلام مساحة، عرضه أربع وعشرون شعره، وقلم الثلث منه بمقدار ثلثه وهو ثمانى شعرات، ويستعمل لكتابة أسماء الكتب المؤلفة، وأوائل سور القرآن الكريم، والحرف فيه يميل إلى التقوير والاستدارة ومن نماذجه:
بسم الله الرحمن الرحيم
سابعًا: الخط المغربي
الخط المغربي سليل الخط الكوفى الدينى اليابس المنقط الذى ظهر فى مبدأ أمره فى القيروان فى أواخر العصر الأموي ثم انتشر فى أرجاء شمال أفريقيا والأندلس وغرب أفريقيا، كما قالت المستشرقة: السيدة أنامارى شيمل. 
انتشر الخط اليابس منذ وقت مبكر من شمال أفريقيا إلى غرب أفريقيا وتشكل فى "يورنو" خط يشبه الكوفى، ولكنه مائل غالبًا. وفى "كانو" يبدو الخط المستقيم أكثر صفوبة، ثم ظهر الخط المغربى الحقيقى هناك بدءًا من بواكير القرن التاسع عشر الميلادي، وأعقبه تأثير خط النسخ من خلال أعمال مطبوعة فى مصر، واتصال أشد بمركز العالم الإسلامي.(26)
ثم صرح الأستاذ محمد أحمد شفيع بأن الدول الإسلامية في الصحراء وغرب أفريقيا عرفوا الخط المغربي بواسطة علماء المغرب حين يقول: 
لقد عرفت المنطقة التى تعني بحثنا قراءة القرآن برواية عثمان بن سعيد الملقب بالإمام وَرْش ومن مميزاتها الأساسية استعمال الإمالة. انتشر في هذه المناطق كلها نوع الخط العربي المغربي وإن كانت له بعض المميزات المحلية في كل منطقة. ومن مميزات هذا الخط كتابة حرف الفاء بنقطة تحتية واحدة وكتابة حرف القاف بنقطة فوقية واحدة. كما يمتاز بكتابة الكاف أو القاف المعقودة على صورة كاف توضع عليها من الفوق نقطتان أو 3 نقاط. وقد نص على ذلك ابن خلدون في بداية مقدمته. وكل ذلك على خلاف الكتابات الشرقية التي تكتب الكاف المعقودة على صورة غين أو قاف أو جيم، مما كان سببًا فى تحريف عدد كبير من أسماء أعلام الأشخاص أو الأماكن وغيرها والتي وردت في كتب المؤرخين. إن هذا التواصل الديني الثقافي قد استمر قويًا ومطردًا عبر قنواته المختلفة إلى أن أضعفته عصور الانحطاط في هذه المنطقة الإسلامية ولكنه مع ذلك بقي متواصلاً تشهد به الروايات الشفوية.(27)  
وقد تأثر بالخط المغربي النيجيريون فأخذوا يستعملونه فى رسم لهجاتهم المحلية بالحروف العربية. وبالتالى ظهرت عدة مؤلفات عجمية في أشعار كنورية وفلانية وهوسوية ونوفية ويورباية بالحروف العربية وكان العلماء التقليديون النيجيريون ولا يزالون يدونون رسائلهم وبعض كتبهم العجمية بالحروف العربية قبل ظهور الحروف اللاتنية المألوفة في مناطق غرب أفريقيا اليوم. ولما انتشرت أعمال مطبوعة في مصر فى نيجيريا واتصل المسلمون وبعض الطلاب بمركز العالم الإسلامي أخذت الخطوط  المعروفة في الشرق الإسلامي تنتشر فى المدارس العربية الحديثة. ومع ذلك لا يظل الخط المغربي يساير الخط الحديث جنبا لجنب فى حلقات تعليم القرآن والمعاهد العلمية الحديثة. وخلاصة القول أن الخط المغربي قد تميز بخصائص آتية:
أ‌- أن علامات المد وأواخر الآيات القرآنية ترسم بمداد أحمر حتى لا تختلط بألفاظ القرآن الأصلية. 
ب‌- وأما فى إعجام الفاء والقاف فإن الكتّاب ينقطون الفاء بنقطة واحدة في أسفلها والقاف بنقطة واحدة في أعلاها بمداد أسود فى الغالب... 
ج‌- ويرسمون (ى) فى الكلمة (المنقوصة) هكذا (>) مثل (الذ>).(28) 
د‌- وكذلك لا ينقطون الفاء والقاف والنون المتطرفة فى الكلمات، والكاف فى نهاية الكلمة كالكاف فى وسطها.
ه‍-  ويستخدمون الإمالة في الألفاط المقصورة ومن نماذجه:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ربّ العالمين. 
الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين.
ثامنًا: الخط الحديث
وهناك ألوان حديثة من الخطوط اشتقها الخطاطون والمهتمون بالفنون التشكيلية واستعملوها فى تكوين لوحاتهم الفنية وفى عناوين الكتب والصحف والمجلات والإعلانات، وقد اشتقوها من الخط المعروفة الرقعة والنسخ والكوفى، ومن نماذجها:
بسم الله الرحمن الرحيم



5-   خاتمة
يظهر مما سبق لنا دراسته نقاط عديدة وأهمها ما يلى:
1- أن الأبجدية الفينيقية الكنعانية لها تأثير شديد فى ظهور الأبجديات المختلفة فى لغات الأمم المتحضرة فى مشارق الأرض ومغاربها. ومما لاشك فيه أن العرب- وإن لم يكونوا متأثرين بالأبجدية الفينيقية مباشرة- قد تأثروا بالسريانية والآرامية والعبرانية التى تأثرت مباشرة بالفينيقية فى وضع أبجدياتهم.
2- أن ملوك العرب من السبئيين والحميربين، والتبابعة فى أرض اليمن، والأنباط فى جنوب فلسطين، واللخميين فى الحيرة تحت الفرس، والغساسنة فى حوران تحت الروم ليسوا أمة أمية لا تستطيع أن تقرأ أو تكتب، بل كانوا متحضرين. ومن ثقافتهم القديمة الخط الحميرى والخط النبطى. وأما الحجازيون من العرب وإن كانوا قد تأثروا بإخوانهم من عرب جنوب الجزيرة وشمالها وتعلموا منهم الكتابة لم يبلغوا مبلغهم فى الكتابة والحضارة بل ظهرت فيهم البداوة والهمجية حتى سماهم الله أميين لا يجيدون الكتابة والقراءة إلى حد محمود، بل كان عدد الذين عرفوا الكتابة منهم قليلا جدا قبل ظهور الإسلام، فهم إذن أجدر من غيرهم بتلك الصفة.
3- أن الأبجدية العربية النموذجية التى تستعمل إلى هذا اليوم قد تشكلت تشكلا جوهريا من الآرامية السريانية بواسطة الخط النبطى قبل الإسلام وأنها هى التى دوّن بها القرآن الكريم فى الألواح من العظام والحجارات والرقاع والرقوق فى عهد النبي ، وبها جمعوه فى الصحف فى عهد سيدنا أبىبكر الصديق (رضي الله عنه) وبها جمعوه وكتبوه فى المصحف العثمانى الإمام الذى استنسخوا منه سائر المصاحف التى وزعت فى الأمصار. وبهذه الحروف كتبت رسائل النبي  ورسائل الخلفاء الراشدين كتابة بدائية خالية من التنقيط والتشكيل (النقط والشكل)، وأن كتابة القرآن الكريم فى هذه الصورة كانت عاملا كبيرا من العوامل التى ساعدت على ظهور العلوم اللغوية من نحو وصرف ومتن اللغة وأصول الخط والكتابة وفقه اللغة وغير ذلك من مباحث اللغة.



4- أن مشكلة اللحن فى قراءة القرآن هى التى أدت إلى وضع علم النحو على يد أبى الأسود الدؤلي، وأن مشكلة التصحيف هى التى دفعت الحجاج بن يوسف الثقفى إلى أن يأمر نصر بن عاصم البصرى ويحي بن يعمر العدوانى تلميذى أبى الأسود الدؤلى أن يميزا بين الحروف المتجانسة بتنقيطها تنقيط الإعجام.
5- أن الفضل يعود إلى الفقيه اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي فى استبدال نقاط الإعراب التى وضعها أبو الأسود الدؤلى بالحركات القصيرة ( اَ  اِ  اُ ) وفى اقتطاع رأس (ش) بحذف نقطها وجعلها "شدة" علامة لتضعيف الحرف أو تشديده، وفى اقتطاع رأس (ع) وجعلها همزة بصفتها حرفا مستقلا وبذلك جعل الأبجدية العربية متكونة من تسع وعشرين وحدة صوتية.
6- أن فن الخط أداة قيمة من أدوات الاتصال التى ينبغى للعلماء والمتعلمين أن يلمّوا بأنواعه ويعتنوا بأصوله علما وتطبيقا ليترتب على ذلك حسن التفاهم بين الكاتب والقارئ. والله يوفق للصواب.


تعليقات

  1. أين نشرت هذا المقالة؟

    ردحذف
  2. أرجو منكم موافتي باسم المجلة التي نشرت هذه المقالة بعنوان : نشأة الخط العربي وتطوره عبر التاريخ
    شكرا

    ردحذف
  3. ايها الخطاطين العظماء
    اريد واحد منكم يكتب لي كلمة ( بن عمرو ) بنفس خط قناة الجزيرة الاخبارية حتى وان كان على ورقة
    وارسل لي صورتها وسأكون ممنون له كثيراً على بريد ( wagdiadil@yahoo.com )
    أو على واتس آب 00967770708001
    اخوكم وجدي
    من اليمن

    ردحذف
    الردود
    1. جزاكم الله خيرا بهذه الفائدة

      حذف

إرسال تعليق