تاريخ الخط العربي
تاريخ الخط العربي
مؤلفه : أحمد شوحان
تقديم : الدكتورة خيال الجواهري
الإهــــداء
إلى عاشقي الخط العربي الذي نزل به القرآن فزاد في جماله جمالاً.
الذين يعكفون على إحياء هذا التراث الرائع، والسحر الحلال، الذي يفخر به العرب وغيرهم.
أولئك الذين يعملون بصمت، ويعيشون بعيداً عن الأضواء، والشهرة، والجاه والمال.
أولئك هم المخلصون حقاً.
أتقدم إليهم بهذه الرسالة المتواضعة عرفاناً بجميلهم، وتقديراً لمواهبهم.
أحمد شوحان
المقدمة
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم.
والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي الذي بعثه الله رحمة للعالمين وجعل من أمته الأمية خير أمة أخرجت للناس، كانت في جاهلية جهلاء، فأنزل الله على رسوله (إقرأ) فأصبحت بها حين قرأت وكتبت معلمة العالم، وحاملة راية الفكر والعلم عن بني البشر قروناً.
وفي هذه الرسالة اللطيفة نسير مع الخط العربي، هذا الحرف المقدس الذي نزل به القرآن الكريم، وجعل النطق به عبادة لله التي لا يقبل الله صلاة بغيره.
وجعل فيه سر إعجازه وبيانه، فزاد هذا الحرف جمالاً إلى خصوصياته، مما جعل الخطاطين عبر العصور وفي سائر البلاد التي يوجد فيها فنانون وخطاطون يتبارون في رسم حروفه فيطرزونها وينمقونها، ويجعلون من هذا الحرف الصامت حرفاً ينطق بحركة الحيوية، ليعبر عن جماله في تلك الأشكال والحركات التي جعلته يتكلم من غير لسان، وتفوح رائحته العطرة من خلال متابعة الكلمة الواحدة حرفاً حرفاً.
لقد تناولت في هذه الرسالة المتواضعة رحلة الخط العربي منذ أن كان في أعماق الجزيرة العربية (مسنداً) على القبور والآثار إلى أن أصبح لوحات حديثة في المتاحف ومعارض الخط، وذلك من خلال وجهة نظري ككاتب وباحث لا من وجهة نظر الفنان والخطاط الذي يتابع الحرف والكلمة لدى المبدعين وذوي الاختصاص، ولذا أرجو المعذرة من هؤلاء الخطاطين الذين ينظرون إلى الكتابة عن الخط وتاريخه كما ينظرون إلى جمالية الخط وإبداع الخطاط في لوحته.
وسيجد القارئ الكريم في الباب الثالث (الخطاطون العظام) تراجم المشهورين من القدماء والمحدثين، وإن كنت قد اختصرته على أقل القليل بغية الإحاطة بحياتهم، وتيسيره للقارئ.
أرجو الله أن يوفقني لما يحبه ويرضاه لخدمة تراثنا العربي والإسلامي الذي نعتز به، إنه نعم المولى ونعم النصير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
دير الزور في 15 رمضان 1421هـ
الموافق 11 كانون الأول 2000م.
أحمد شوحان
الخطاط
هو الفنان الذي يجعل من الحروف العربية لوحة فنية يقف أمامها المشاهد مبهوتاً يفكر في دقة الكتابة، وروعة القصبة، وعبقرية الخطاط.
ولا يقتصر الخطاط على صناعة لوحة فنية من الحروف العربية، لكنه يصنع منها لوحات كثيرة، كل واحدة منها تحكي براعته في صناعة تلك التحف التي يعجز عن مثلها النحات والمصور والمغني والكاتب ونحوهم.
إن الخطاط المبدع هو الذي يجعل موهبته في اللوحة تتكلم من خلال رشاقة الخط، وتناسق سطوره، ومدّاته وحركاته.
ونلمس قدرة الخطاط في إتقان مهنته، عندما نقف أمام لوحة من لوحاته فنجد حبرها متكاملاً في بداية الحرف الأول، ومتواصلاً في ذلك إلى نهاية الأخير، وأن قلمه (القصبة) التي كتب بها تناسب قطَّتُها حجم الخط ومساحة اللوحة، والقلم الذي يكتب فيه على ورق أو كرتون يختلف فيه نوعه وحجمه عما يكتب فيه على الخشب والجص والرخام والجلد والبلاستيك والزجاج والقماش وغيرها من مختلفات المواد.
وإذا كان الخطاط اليوم يستعمل الفرشاة في أغلب اللوحات فقد كان قديماً يكتب كل ذلك بالقلم (القصبة)، وحينما اخترع المتأخرون القصبة من معدن اعتبروا ذلك عيباً في الخطاط لأن قصبة الحديد لا تعطي ما تعطيه القصبة النباتية.
إن الخطاط فنان مبدع، يستحق الانحناء والتكريم تقديراً لما يقدمه من لوحات خطّية للأجيال القادمة.
فضل الخط
الخط والكتابة وجهان لعملة واحدة، وهما عصارة فكر الإنسان الذي فكر في الإبداع منذ الأزل، وسيبقى يفكر في خلود الذكر والأثر إلى الأبد.
لقد راح الباحثون يقلّبون أوراق السالفين للوصول إلى اقرأ وربُّك الأكرم، الذي علّمالمعلّم الأول لفن الخط؛ فكانت الآية الكريمة ( ).بالقلم
هي المعْلَم الذي يأخذ بيد الباحث إلى أن الله سبحانه هو المعلِّم .علّم بالقلمالأول لقوله:
وقد تحدّث العلماء عن فضيلة الخط، وجمالياته، وأسباب انتشاره أو انحساره، وتطوره وجموده، وكتبوا في ذلك الكثير، فنحن نرى الأبجدية الإنكليزية تغزو العالم في القرون الثلاثة الأخيرة بسبب الغزو العسكري، بينما نجد الأبجدية العربية تنتشر في العالم منذ خمسة عشر قرناً بسبب نشر الدعوة الإسلامية وتقبّل الشعوب هذه اللغة لأنها لغة القرآن ولغة الإسلام، ووسيلة التفاهم بين الشعوب الإسلامية.
وقد عرّف العرب الخط فقالوا: الخط لسان اليد.
وأسلس حاجي خليفة العنان لقلمه فكتب يقول: (ما من أمر إلاّ والكتاب موكل به، مدبّر له، ومعبّر عنه، وبه ظهرت خاصة النوع الإنساني من القوة إلى الفعل، وامتاز به عن سائر الحيوانات)( ).
ونظراً لقيمة الخط فإننا نرى الخطاط مثلاً يكتب الآية القرآنية، أو الحديث النبوي، أو الحكمة البالغة، فيزيد جمالها جمالاً في روعة خطه، وعصارة إبداعه، وإذا كانت اللوحة المخطوطة تحرك القلوب بنصّها، فإن الخطاط يهز مشاعر المشاهدين بجمال عطائه، ولذلك لم نجد خطاطاً واحداً كتب كلاماً سخيفاً ليزيّنه بجمال خطه، فالجمال لا يقع إلاّ على الجمال.
يقول الدكتور علي أرسلان –وهو خطاط وأستاذ بجامعة استانبول:
(يعتبر فن الخط، أصعب الفنون الإسلامية، وذلك لأن الفنان فيه لا يملك في يده غير القلم البسيط، وهذا القلم مسطرة الخطاط وبِرْجَلُهُ( ) . وهو قسطاسه الذي يعين به أحجام الحروف.
هذا القلم يقوم بأداء كل وظائف الآلات الأخرى التي يمتلكها الفنانون في سائر الفنون الأخرى. لذا تلزم الخطاط خصلتان رئيسيتان هما: القابلية وبذل الجهد)( ).
وبالإضافة إلى كون الخط فناً وذوقاً وجمالاً، فقد كان وما زال مورداً لرزق الكثيرين من الخطاطين والهواة، سواء في محلاّت في الأسواق أو تدريساً وتعليماً، أو تأليفاً وتحقيقاً.
ولذلك اعتبره الأدباء فناً ومورد رزق.
قال ابن المقفع: (الخط للأمير جمال، وللغني كمال، وللفقير مال).
وقال أحد الشعراء:
تعلّم قوام الخط يا ذا التأدب
فما الخط إلاّ زينة المتأدّب
تعلّم قوام الخط يا ذا التأدب
وإن كنت محتاجاً فأفضل( ) مكسب
وهذه المزايا التي امتاز بها الخط العربي من جمال وكمال ومال، قد لا نجدها في خط آخر من خطوط العالم.
قال أبو تمام يصف جمال رسالة جاءته فأعجب بها:
مداد مثلُ خافية الغراب
وقرطاس كرقراق السراب
وألفاظ كألفاظ المثاني
وخط مثل وشم يد الكَعاب
كتبتُ ولو قدرت هوى وشوقاً
إليكِ لكنتُ سطراً في( ) كتاب
وقد امتاز الخطاطون العرب والمسلمون بالجمع بين جمالية المقروء وإبداعية الخطاط الفنان، بمعنى أنهم كانوا يختارون أجمل اللفظ فيودعون فيه أجمل ما لديهم من جمالية الخط وروائعه. وهم بهذا يزيدون جمال المعنى اللفظي جمال الخط، فيكون في ذلك إبداع الصورة والمعنى.
ولقد تحدث عن ذلك القلقشندي حيث جعل الإبداع في الجمع بين الشكل والمضمون فقال: (اللفظ إذا كان مقبولاً حلواً رفع المعنى الخسيس وقرّبه من النفوس، وإذا كان غثاً مستكرهاً وضع المعنى الرفيع وبّعده من القلوب.
كذلك الخط إذا كان جيداً حسناً، بعث الإنسان على قراءة ما أودع فيه، وإن كان قليل الفائدة، وإذا كان ركيكاً قبيحاً صرفه عن تأمل ما تضمنه وإن كان جليل الفائدة)( ).
وحين راح الخطاطون يتفنّنون في الخط فيلغزون فيه ويمشقونه مشقاً( ).بحيث يتحول الخط إلى طلسم ولغز يصعب معرفته، نبّه العلماء إلى ضرورة حسن البيان في الخط وإيضاحه، حتى أن ابن سيرين كان يكره أن يُكتب القرآن مشقاً، ويقول: (أجود الخط أبينَهُ)( ). وذلك لسهولة القراءة، ومن ثم لسرعة الفهم.
الباب الأول:
رحلة الخط العربي
1-في العصر الجاهلي
2-في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم
3-في عصر الخلفاء الراشدين
4-في العصر الأموي
5-في العصر العباسي
6-في العصر الأندلسي
7-في العصر الفاطمي
8-في العصر العثماني
9-في إيران
10-في أوروبا
1- الخط العربي
في العصر الجاهلي
عرف العرب الخط منذ غابر العصور وقبل الأبجدية التي عثر عليها في أوغاريت (رأس شمرا) بآلاف السنين.
وقد عثر في الجزيرة العربية وفي أماكن مختلفة على كتابات عربية مدونة بخط (المسند) لذا اعتبره الباحثون والمؤرخون القلم العربي الأول والأصيل وهو خط أهل اليمن، ويسمونه خط (حِميَر).
وقد بقي قوم من أهل اليمن يكتبون بالمسند بعد الإسلام، ويقرؤون نصوصه، فلما جاء الإسلام كان أهل مكة يكتبون بقلم خاص بهم تختلف حروفه عن حروف المسند و دعوه (القلم العربي) أو (الخط العربي) حيناً و (الكتاب العربي) أو (الكتابة العربية) حيناً آخر تمييزاً له عن المسند.
(وكتب كتبة الوحي بقلم أهل مكة لنزول الوحي بينهم، وصار قلم مكة هو القلم الرسمي للمسلمين، وحكم على المسند بالموت عندئذ، فمات ونسيه العرب، إلى أن بعثه المستشرقون، فأعادوه إلى الوجود مرة أخرى، ليترجم الكتابات العادية التي دونت به). وجاء بعد الخط المسند الخط (الإرمي) نسبه إلى قبيلة إرم، وهو الخط الذي دخل الجزيرة العربية مع دخول المبشرين الأوائل بالنصرانية، حتى أصبح فيما بعد قلم الكنائس الشرقية.
وهناك القلم (الثمودي) نسبة إلى قوم ثمود.
والقلم (اللحياني) نسبة إلى قبيلة لحيان.
والقلم (الصفائي) الذي عرف بالكتابة الصفائية نسبة إلى أرض (الصفاة) وهي الأرض التي عثر بها على أول كتابة مكتوبة بهذا القلم.
وقد ذكر الدكتور جواد علي رحمه الله أكثر من عشرين احتمالاً لأول من كتب بالحرف العربي( ).
وإذا كنا اليوم نفتقر إلى تركة تفصّل لنا كل شيء عن المدى الذي بلغه العرب عبر تواريخهم السحيقة، فإننا في نهم شديد إلى البحث لاستكمال ما عثر عليه الآثاريون من لوحات وخطوط وآثار تشير إلى الحضارة العربية في الجزيرة العربية، والحضارة لا يمكن أن تبدع في ناحية وتعقم في أخرى، فالشعب الذي يقيم السدود منذ آلاف السنين لا بد أنه استعمل القلم والمسطرة والفرجار والمثلث، ورسم الأبعاد والجوانب لِما همَّ به قبل الشروع في السدّ، ثم بدأ ما رسمه وكتبه على الورق بتنفيذه على الأرض
المفصل من تاريخ العرب قبل الإسلام (8/234)
أشكال حروف المسند
المفصل من تاريخ العرب قبل الإسلام (8/220)
2- الخط العربي
في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم
جاء الإسلام مع التطور السريع والنقلة النوعية لأمة تسود فيها الأميّة، وتنتشر فيها عقدة (الأنا) خلال فترة وصفها المؤرخون بـ (الجاهلية) فهي آخر ما امتلكه العرب من روح الحياة الحضارية والمدنية قبل الإسلام، فكان الإسلام نقطة البدء، وعودة الوعي للأمة التي امتلكت زمام الحضارة منذ آلاف السنين الخالية، فأصبحت تتنفس الصعداء بعد هذا الركام الطويل الذي غيّر كثيراً من معالمها، وطمس صفحات من تاريخها، أصبحت مجهولة لدى أبنائها، وأتعبت الباحثين في التنقيب عن أصالة الجذور، ورحلة الأصالة والتطور لهذا الحرف الذي كان نسياً منسياً، فكانت الآية الكريمة(اقرأ) صلصلة الجرس الذي نبّه النائمين أو حرّك مشاعر وأحاسيس الغافلين عن تراث هذه الأمة الذي عفا عليه الزمن.
صحيح أن القرآن الكريم وصف العرب بـ (الأمة الأُميّة) كما وصف الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم بـ (النبي الأُمي) وهذا الوصف للعرب لا يعني (التعميم) إنما يعني صفة الغالبية، ولا يعني بأميّة النبي صلى الله عليه وسلم صفة الجهالة والتخلف، إنما يعني الاعتزاز والثناء على شخص لا يحسن القراءة ولا الكتابة، ولم يتعلمهما عند من يحسنهما كما هو مألوف لدى الكثيرين من العرب وأهل مكة؛ ومع تلك الأميّة التي وصفه القرآن بها استطاع أن يصنع أمة متعلّمة، عالمة، داعية للعلم وآخذة بزمامه.
ومنذ أن نزلت أول آية وأول سورة من القرآن الكريم وهي سورة العلق ( ). راح هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم يدعو للأخذ بزمام العلم،إقرأوآية ويحث أصحابه على التعلّم، حتى أن الباحث في القرآن الكريم سيجد أن كلمة (علم) وردت مئات المرّات داعية إليه، أو حاثة على الأخذ به، أو مثنية على أهله.
من هنا نستطيع أن نقول إن الخطوة الفنية والجمالية الأولى للخط العربي بدأت مع بزوغ شمس إقرأ باسمالإسلام في غار حراء، حيث نزل جبريل مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ( ).ما لم يعلم
بعد ذلك دخل العرب إلى دنيا التقدم والإبداع، وقدّموا للعالم فنوناً لم تكن تخطر على بال أحد، فقد ألفت المجتمعات القديمة الفن في الصور والتماثيل، لكن العرب بعد الإسلام جعلوا الخط العربي فناً من الفنون، حيث يقف المشاهد مشدوهاً أمام لوحة الخط يتفحّص ويدقّق نظره في الجهد الذي بذله الخطاط، والدقّة التي وصل إليها من خلال جهود مضنية، ومقاييس متقنة للوصول إلى هذه اللوحة الرائعة التي هي (الخط العربي).
قلنا: إن نزول سورة العلق هي بداية الرحلة الرائعة التي انطلق منها الخط العربي، من خلال دعوة الإسلام للعلم، وحث الناس جميعاً ذكوراً وإناثاً للأخذ بزمامه.
أبلغ الأثر في حثّ العربإقرأوكان لآية على التقدم العلمي، والعلم الذي دعا إليه الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم قراءة وكتابة، وتجويد الكتابة في الفن والذوق، وهل أجمل من أن يكتب الكاتب سطراً على عظم أو جريد نخل أو رقائق حجرية ليحفظ لمن يأتي من بعده القيمة العلمية أو الفنية التي يتضمنها ذلك السطر!!.
إنه جهد كبير عاناه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لتدوين القرآن، خلال ظروف قاسية.
لقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الكتابة كما حث على القراءة، وحيث أن عصر الدعوة الأول هو بداية التأسيس، فقد انصبّت جهود الداعية الأول إلى كافة الجوانب لنشر الدعوة بين الناس في موطنها الأول مكة المكرمة، ثم نقلها إلى كافة الجزيرة العربية، ومن ثم تعميمها إلى الأقطار الأخرى.
نستطيع أن نقول: إن بداية إبداع الخط العربي بدأ في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تلك البداية المتواضعة طوّر الخطاطون خطوطهم فيما بعد. وقد ترك لنا هذا العصر عدداً من الرسائل التاريخية القيمة التي أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم للنجاشي في الحبشة، والمقوقس في مصر، وملك البحرين، وملك الروم في دمشق، وهي ذات قيمة تاريخية كبيرة.
3- الخط العربي
في عصر الخلفاء الراشدين
تطور المجتمع العربي الإسلامي في زمن الخلفاء الراشدين تطوراً ملموساً، وتغير تغيراً جذرياً، وأصبحت سيادة الدولة بدلاً من زعيم القبيلة، كما أصبح القانون مكان العرف والعادة، ونتيجة لذلك فقد دوّنت الدواوين، وأصبحت للخط مكانة، مما جعل رابع الخلفاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحث على تحسين الخط وإتقانه، لأن المرحلة التي كانوا فيها تستدعي قوة الدولة الفتية، ونهضة العلم المتمثلة في البحث والتدوين، وإظهار الفن الإسلامي من خلال الخط العربي، مما يجعلنا واثقين أن الخط العربي (انتشر بنمو الإسلام وامتداده، ووصل في زمن قصير إلى جمال زخرفي لم يصل إليه خط آخر في تاريخ الإنسانية)( ).
فلما انتهت الخلافة الراشدة كان الخط قد برز كعلم وفن، له قواعده وأصوله، وأخذ يتحفّز لينطلق من الجزيرة العربية شرقاً وغرباً وشمالاً، مع سرعة الفتوحات الإسلامية في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتوسعها خلال الفترة الأموية.
لقد كانت بدايات النهضة العربية في زمن الخلفاء الراشدين، الذين أرسوا قواعد الدولة الفتية، وبدؤوا في التغيير الملائم، وحيث أن الحياة بدأت تتغير، فقد تغيروا بما يلائم الحداثة والعصر الجديد، فحين انتشر اللحن لاختلاط العرب الأقحاح بالعجم، رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يضع ضوابط للّغة العربية، وكانوا قبل ذلك لا يحتاجون إليها لسلامة نطقهم، ونقاء فطرتهم، فأوعز لأبي الأسود الدؤلي أن يضع تلك القواعد الثابتة في النحو.
إن هذا التطور في الخط العربي فرضته الظروف التي تغير العرب بسببها من حال إلى حال، ولو بقوا على ما كانوا عليه لما احتاجوا إلى وضع الحركات والشكل، وابتكار النُّقط التي ميَّزت بعض الحروف عن بعضها.
4- الخط العربي
في العصر الأموي
أحرز الخط في العصر الأموي تقدماً ملموساً على ما كان عليه في العصرين السالفين، عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين، واستطاع أن يُبرز ولأول مرة الخطّاطَ، ومهنته إلى الوجود؛ رغم أن الحروف كانت خالية من النقط، وقد لمع نجم عدد من الخطاطين يأتي في مقدمتهم الخطاط الشهير (قُطبة المحرر) الذي ابتكر خطاً جديداً يعتبر مزيجاً من الخطين الحجازي والكوفي، وسمي هذا الخط بالخط (الجليل) حيث استعمله قطبة ومن عاصروه أو جاؤوا بعده في الكتابة على أبواب المساجد ومحاريبها.
ولم يكن خط (الجليل) هو كل ابتكار قطبة، ولكنه ابتكر عدة خطوط أخرى، أجاد فيها وأحسن منها (خطّ الطومار وهو أصغر من سابقه، وكذلك اخترع قطبة خط (الثلث) و (الثلثين) وذلك حوالي عام 136هـ)( ). وكان له فضل السبق في ذلك.
وخط الطومار يعني (خط الصحيفة) وجمعه طوامير، وقد سمّاه الأتراك خط (جلي الثلث).
وراح الخطاطون في العصر الأموي –ولأول مرة- يخطُّون خطوطاً جميلة تزين القصور والمساجد والخانات، ويكتبون بهذه الخطوط في سجلاّت الدولة الفتية ودواوينها الحديثة، فنالوا حظوة لدى الأمراء والخلفاء، وجعلوهم في صدارة مجالسهم، واستعملوهم في دواوينهم. وأصبحنا نرى هذه الخطوط الحديثة الجميلة في هذا العصر تزين القباب والمآذن والمساجد والقصور التي حُلِّيت بالفسيفساء والخشب المحفور والمطعم بالفضة والمعادن والزجاج، ليس في العاصمة دمشق فحسب، بل في أبعد المدن القاصية عنها والثغور، وهذا ما نراه واضحاً بعد أكثر من أربعة عشر قرناً في المسجد الأموي في دمشق، وقصر الحير الشرقي، وآثار رصافة هشام، ومحراب المسجد الأقصى وقُبَّته وغيرها.
كان الخطاطون في العصر الأموي يكتبون في سجلاّت الدولة بخط (الثلثين) الذي أطلقوا عليه لكثرة ما كتبوا به السجلاّت اسم خط (السجلاّت) (أما خلفاء بني أمية فكانوا يكتبون بخط الطومار وبالخط الشامي)( ).
وقد نشط عدد من الخطاطين في هذا العصر، لعبوا دوراً هاماً في النهوض بالخط كحركة فنية فتية يأتي في مقدمتهم:
1- خالد بن أبي الهيّاج. وقد كتب عدداً من المصاحف.
2- مالك بن دينار. الذي غلب عليه الزهد والورع فذكروه في عداد الفقهاء والمحدثين وتوفي سنة 131هـ (753م).
3- الرشيد البصري.
4- مهدي الكوفي.
ثم اشتهر خطاطون آخرون لا يقلّون عن سابقيهم شهرة وعدداً انتشروا في الأمصار البعيدة عن مركز الخلافة منهم:
1- (شراشير المصري.
2- أبو محمد الأصفهاني.
3- أبو الفرج.
4- ابن أبي فاطمة.
5- ابن الحضرمي.
6- ابن حسن المليح)( ).
لقد كان لخلفاء بني أمية الدور الأكبر في نهضة الخط العربي، ودفعه إلى الأمام لمجاراة النهضة الشاملة للدولة الإسلامية التي أرسوا أسسها، ليبني اللاّحقون لهم على أُسس المتينة.
5- الخط العربي
في العصر العباسي
ما كاد الخطاطون يتربعون على عرش الخط في دمشق حتى زلزل العباسيون عرش الخلافة الأموية فيها، فاتجهت أنظار الخطاطين والفنانين إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية، ومدينة الخلفاء العظام المنصور والرشيد والمأمون، وطبيعي أن يرحل إليها الخطاطون كما رحل إليها الأدباء والعلماء، ليكونوا أقرب إلى الخليفة والدولة وينالوا أجر إبداعهم من الخلفاء والأمراء والموسرين وغيرهم.
وإذا كان العصر الأموي عصر تأسيس وبناء، فإن العصر العباسي عصر ازدهار ورخاء وبذخ، وفي مثل هذا العصر لابد أن يزدهر كل فن، وينبغ كل من يمتلك أدنى ملكة فنيّة أو علمية.
لقد ذاعت شهرة الخطاط (الضحاك بن عجلان) في خلافة أبي العباس السفاح، والخطاط (إسحاق بن حماد) في خلافتي المنصور والمهدي، حتى (بلغ الخط في عهدهما أحد عشر نوعاً)( ).
وتعددت أقلام الخطاطين وخطوطهم في عهد هذين الخطاطين حتى كانت مضرب المثل في إظهار ملكتهم في الحرف العربي. فلما جاء عصرا الرشيد والمأمون نضجت العلوم والفنون والمعارف، وراح الخطاطون يجوّدون خطوطهم، وينافسون في ذلك، حتى زادت الخطوط على عشرين خطاً، منها المستحدث ومنها المطوّر، فقد طوّر الخطاط إبراهيم الشجري (الثلث والثلثين) أكثر مما ابتدعه الخطاط قطبة المحرر، وقبيل نهاية القرن الثالث اخترع الخطاط يوسف الشجري أخو إبراهيم الشجري خطاً جديداً سمّاه (الخط المدوّر الكبير) حيث أعجب الفضل بن سهل وزير المأمون، فراح يعمِّمه على جميع الكتب السلطانية الصادرة عن دار الخلافة، فأطلقوا عليه (الخط الرياسي) بينما انتشر عند سائر طبقات المجتمع باسم (خط التوقيع) وقد استطاع الخطاط الأحول المحرر البرمكي أن يأخذ عن إبراهيم الشجري، وأن ينجح في اختراع خط جديد اسمه (خط النصف) الذي تفرعت منه خطوط جديدة فيما بعد)( ).
وجاء أبو علي محمد بن مقلة الوزير (272-328 هـ) فضبط الخط العربي، ووضع له المقاييس، ونبغ في خط الثلث حتى بلغ ذروته، وضرب به المثل، وحسده الآخرون.
كما أحكم خط المحقق، وحرر خط الذهب وأتقنه، وأبدع في خط الرقاع وخط الريحان، وميَّز خط المتن، وأنشأ الخط النسخي الحاضر وأدخله في دواوين الخلافة، وقد ترك ابن مقلة في الخط والقلم رسالته الهندسية( ).
وقد زاد ابن مقلة في الأوساط الفنية كخطاط أنه كان وزيراً لثلاثة خلفاء، ولفترات مختلفة، فقد كان وزيراً للمقتدر، وللقاهر بالله وللراضي بالله.
وحينما غضب عليه الخليفة، قطع يده اليمنى لكنه لم يترك الخط، بل كان يربط على يده المقطوعة القلم حينما يشرع في الكتابة، ثم أخذ يكتب بيده اليسرى فأجاد كما كتب بيمناه.
واستمرت رياسة الخط لابن مقلة حتى القرن الخامس، فاشتهر علي بن هلال (المعروف بابن البوًَّاب) والمتوفى سنة (413 هـ) فهذّب طريقة ابن مقلة في الخط، وأنشأ مدرسة للخط، واخترع الخط المعروف بالخط (الريحاني)( ).
ولو أردنا سبر المصاحف التي خُطَّت في العصر العباسي لتبيّن لنا أن معظمها (ترجع إلى القرن التاسع الميلادي، وهي مكتوبة على الرِّق بلونه الطبيعي، أو الملوّن الأزرق والبنفسجي أو الأحمر، وبمداد أسود أو ذهبي، وتظهر الحروف الكوفية فيها غليظة ومستديرة وذات مدَّات قصيرة، وجرَّات طويلة( ).
وبلغت الخطوط في أواخر العصر العباسي أكثر من ثمانين خطاً وهذه الكثرة شاهد على تقدم الفن والزخرفة إلى جانب الخط. وظهر في العصر العباسي خط اسمه (الخط المقرمط) وهو خط ناعم، حتى راح الخطاطون يتفنَّنون في رسم المصاحف رغم صغر الحجم، فهم يزوّقونها، ويعتنون في جميع صفحاتها التي قد تصل إلى أدنى من (6×8 سم) وقد استطاع الخطاط أن يبري قلمه إلى جزء من المليمتر.
ولم يكن الخط العربي وقفاً على الرجال في العصر العباسي، بل نجد المرأة تبرز في هذا المضمار الفني العريق، ففي القرن التاسع الميلادي كانت هناك امرأة برزت في النسخ وجودة الخط، فأعجب بها أحمد بن صالح وزير الخليفة المعتضد، وكتب عن براعتها ما يلي: (كان خطها كجمال شكلها، وحبرها كمؤخر شعرها، وورقها كبشرة وجهها، وقلمه كأنملة من أناملها، وطرازها كفتنة عينيها، وسكِّينها كوميض لمحتها، ومقطَّتها كقلب عاشقها)( ) حقاً لقد بلغ الخط في العصر العباسي ذروته.
عن كتابخانة عمومي حضرت اية الله مرعشي نجفي(ص63)
6- الخط العربي
في العصر الأندلسي
لم تكن شبه الجزيرة إيبريا (إسبانيا) شيئاً مذكوراً قبل الفتح العربي الإسلامي لها، ولم يكن فيها من الفنون ما يشجع الباحث لشدّ الرحال إليها لدراسة ما فيها من فنون وزخارف. رغم كونها بوابة البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى الشرق الحافل بالفنون منذ القديم، ورغم كونها ذراع أوروبا الممتد نحو أفريقيا والوطن العربي وأوروبا نفسها.
وإذا ما قيس واقعها قبل الفتح العربي الإسلامي لها إلى ما آلت إليه بعده، نجد البون واسعاً، والمسافة طويلة. فقد أصبحت تحمل اسم الأندلس، وأصبحت آية في الجمال والذوق الفني، مما شجع الإسبانيين أنفسهم للتخلّي عن لغتهم الأم، والإقبال على اللغة العربية التي أصبحت لغة العلوم ولغة العصر يومذاك، فهم ينهلون منها بشغف زائد، ويحرصون على تعلمها لأنها أصبحت لغة الثقافة العالمية.
وكان اهتمامهم في هذا المضمار واسعاً، فقد أهملوا لغتهم الأصلية وأقبلوا على اللغة العربية بعشق منقطع النظير، فتركوا قراءة الكتب المقدسة بغير لغة الضاد، واعتبروا اللغة اللاتينية، لغة ثانية، واللغة العربية هي اللغة الأم، إذ ترجمت التوراة والإنجيل للعربية، وبها قرئت في الكنائس. لقد كان دخول العرب المسلمين إلى إسبانيا انقلاباً جذرياً في عالم الثقافة والفكر، ومع دخول الإسلام إليها دخلت في عالم الحضارة والمدنيّة.
دخل الحرف العربي إلى كافة مرافق الحياة، فهو في سطور الكتاب، وهو في زخارف اللوحات، وهو في زخارف البيوت والمساجد ومراكز الولاية، وقصور الحكام، والأمراء والسلاطين، وهو في الكنائس والكاتدرائيات، وبه يقرأ المسلم القرآن في صلاته، والنصراني في إنجيله، واليهودي في توراته، وأصبح الأدباء والشعراء والمؤرخون والفنانون من الأديان الثلاثة يكتبون به، وكما دخل الخط الكوفي الأندلسي إلى المساجد فقد دخل الكنائس النصرانية والبيعَ اليهودية عن رغبة وشوق زائدين، لأن غير المسلم وجد فيه وسيلة للثقافة، ودفعاً للفن الرفيع.
وازدهرت الأندلس، ونسي المجتمع الذي عاش فيها متآخياً قروناً طويلة اللغة التي كانت سائدة في الأندلس قبل دخول المسلمين إليها، مما دفع ملوك أوروبا إلى إرسال أولادهم إلى جامعات الأندلس لتعلّم العلوم، والعودة بعد إتقانها إلى بلادهم، مما جعلهم يبذرون في أوروبا بذور العلم لنهضة تتناول كافة وجوه الحياة. ولكن بعد قرون من دخول العرب إلى الأندلس. وهذا ما جعل كبار المفكرين والمؤرخين يفخرون بالتغني بأيام العرب في الأندلس وإطلاق الحسرات على تلك الأيام، فيما نقلته زيغريد هونكه حيث قالت: (على بساط من نبات المسك والعنبر يتثنَّى، وتصفّر الريح خلاله، كانت أقدامنا تسير)( ).
واستمر الحرف العربي في الأندلس ثمانية قرون، كان خلالها مثالاً يحتذى للنهضة العلمية الرائعة التي خلّفها العرب في الأندلس، والتي أصبحت فيما بعد أنموذج المجتمع الإسلامي المثالي لمن أراد أن يعمل بروح الإسلام. وكانت الابتكارات الكثيرة، والاختراعات العجيبة.
وكان من بين تلك الاختراعات آلة الطباعة الحجرية التي كانت مستعملة في القرن التاسع عشر (فقد كان لعبد الرحمن كاتب اعتاد أن ينشئ الرسائل الرسمية في منزله، ثم ينفذها إلى ديوان خاص يصير فيه إظهارها على الورق، وهو نوع من الطباعة فتصدر في نسخ متعددة، توزع على عمال الدولة)( ).
وانتعشت أسواق الكتب في سائر المدن الأندلسية، وأصبح في كل مدينة سوق لبيع الكتب ومزاد لبيع الكتب بالمزاودة (بازار) وأصبح المخطوط العربي تحفة من التحف التي يزيّن بها الأثرياء قصورهم، ومادة أساسية لطلاب العلم الذين جعلوا غرفة في بيوتهم ذات رفوف وخزن كمكتبة خاصة لهم.
إضافة إلى عشرات المكتبات العامة في كل مدينة، يرتادها الفقهاء والعلماء والأدباء والشعراء.
وكانت أجمل هدية يتلقاها الملك فريدريك الثاني من أبيه ثياباً جميلة مطرّزة الأذيال والأردان بخط عربي بديع واضح، يقول فيه الخطاط بعد أن انتهى من نسجه وتطريزه: (بمصنع الملك مقر الشرف والحظ السعيد، مقر الخير والكمال، مقر الجدارة والمجد، في مدينة صقلية عام 528هـ)( ).
وهل اكتفى هذا الخطاط العربي بإتقان الخط العربي على لباس الملك الصقلي؟!
لقد رسم الفنون العربية أيضاً في بيئة لا تعرف أمثالها، فقد أملى عليه ملك صقلية روجر الثاني ابن الكونت روجر الأول الذي طرد العرب من صقلية بعد أن بقي العرب في هذه الجزيرة قرابة قرنين ونصف قرن، أمر الملك الخطاط العربي أن يرسم له على ثوبه صورة لأسدين يضربان جملين فيصرعاهما وذلك يرمز إلى أن الملك الصقلي الذي رمز له بصورة الأسد انتصر على الحاكم العربي المسلم الذي رمز له بصورة جمل( ).
أصبح الكتاب العربي في كل بيت، وأصبح المخطوط العربي في كل مكتبة، ولا يمكن أن يخلو شارع من شوارع غرناطة وقرطبة وإشبيلية وغيرها من المدن الأندلسية من مكتبة عامة تقدم كافة الخدمات لمرتاديها.
وظل الملوك الذين حكموا الجزيرة بعد خروج العرب وانتهاء الدور الإسلامي فيها يسكّون النقود الإسبانية بحروف عربية، ويزينون ملابسهم بالخطوط العربية المذهبة والمطرّزة، مع أن الواقع يفرض عليهم أن ينهوا كل ما يشير إلى الوجود العربي والإسلامي في الجزيرة بعد انتصاراتهم على ملوك الطوائف وغياب شمس الإسلام، لكن الواقع المعاش يومذاك والحضارة التي تركها العرب لم تكن بالأمر الهيّن الذي يتنكّر له الملوك والعامة من غير المسلمين، فهم قد طردوا عنصراً عربياً، وطردوا ديناً يختلف عن طقوس دينهم، ولكنهم احتضنوا حضارة راحوا يعتزون بها ويفخرون، ويورثون هذه الحضارة لأولادهم وأحفادهم إلى الآن، فهم يعتبرونها أماكن أثرية إسبانية، كما يعتز العرب الآن في الآثار الرومانية التي خلفها الرومان يوم كانوا يسيطرون على بلاد الشام قبل الفتح الإسلامي.
إن الخط العربي في الأندلس لا يزال رغم مرور أكثر من ألف عام يحكي قصة الفن والإبداع العربي والإسلامي الذي توصّل إليه الخطاط والفنان المسلم في الأندلس حين وجد البيئة المناسبة للإبداع والنبوغ، وحين كان التقدم والعطاء المستمر ديدن كل مبدع، مما يجعلنا حين نقف على ما خلّفه العرب في الأندلس من آثار رائعة نقول: من هنا مرّت الحضارة العربية الإسلامية، ومن هناك عبرت الحضارة الإسلامية إلى أوربا. وفي هذه الأرض المعطاء انتعشت البذور الغضة التي زرعها المفكرون العرب قبل دخولهم إليها وبعده.
***
7- الخط العربي
في العصر الفاطمي
اعتنى الفاطميون في مصر بالخط العربي عناية كبيرة، قد كتبوه على المآذن والقباب والأروقة وقصور الخلفاء، وأضرحة العلماء، وزيّنوا به واجهات الحمامات والمكتبات العامة ومضامير الخيل وواجهات السجون، والأماكن العامة، وظهر في مصر الخط الفاطمي، والخط الكوفي الفاطمي، وامتاز كل منهما بهوية خاصة، اختلفا عن غيرهما من الخطوط الأخرى.
لاشك أن مصر ازدهرت خلال العصر الفاطمي ثقافياً، وانتعش الكتاب صناعة وزخرفة وتجليداً وتذهيباً وتسويقاً. بل إن المبدعين استطاعوا خلال العصر الفاطمي أن يخترعوا قلم الحبر السائل الذي امتاز بخزّان صغير للحبر وله ريشة، وهو لا يختلف عن أقلام الحبر السائل الحديثة، وقدّم مخترعه هذا القلم للخليفة الفاطمي هدية، لكنه لم يعممه ولم يصنع منه أقلاماً أخرى ويبيعها لسائر الناس، لأن المجتمع المصري كان يحفل بأنواع مختلفة من أقلام الخط الدقيقة الصنع؛ التي تبلغ ريشتها جزء من عشرة من السنتيمتر الواحد، والتي خطّوا بها مصاحف صغيرة جداً توضع في الجيب، أو ربما تعلق بالحلق.
استمرت فترة الخلافة الفاطمية أكثر من مائتي سنة (359-566هـ) وكان عصر المعز لدين الله الفاطمي عصراً ذهبياً لهذه الفترة، وهو الذي كتب بقلم الحبر السائل.
ولا تزال قصور الخلفاء والأمراء الفاطميين تحكي قصة الفن الذي توصل له الخطاط والنقاش والنحّات في ذلك العصر، بل إن المآذن التي أقيمت خلال تلك الفترة تعتبر اليوم من روائع البناء الإسلامي. (وكان منطلق الخط في مصر "ديوان الإنشاء" وكان لا يرأس هذا الديوان إلاّ أجلّ كتاب البلاغة، ويلقب بـ "كاتب الدست الشريف")( ).
وكان المحمل الذي يتقدم قوافل الحجيج المصريين- والفاطميون من أوائل من ابتدع المحمل الشريف- حيث كان يزدان بالخطوط الذهبية الرائعة، والزخارف الإسلامية الجميلة، بحيث أن من يقود ذلك الجمل يزداد شرفاً، ويحمل لقباً، ويورث ذلك لأحفاده من بعده.
وقبيل انهيار الدولة الفاطمية واستلام الناصر صلاح الدين مقاليد الأمور في مصر، تبعثرت المكتبات الكبرى فيها ونتيجة للتعصب المذهبي.. فقد تحدث المقريزي في خططه عن المكتبات الفاطمية الكبرى التي ذهبت أدراج الرياح بعد استيلاء صلاح الدين على السلطة في القاهرة، وأن الكتب شكّلت أكواماً خارج المدينة، وأن الغلافات الثمينة استعملها الجنود الأتراك أحذية لهم( ).
فلا غرابة أن نجد الذين استولوا على الحكم بعدهم كالأيوبيين الذين حكموا مصر والشام واليمن من عام 1169م إلى عام 1260م والمماليك على اختلاف جنسياتهم الذين حكموا مصر وبعض الشام من عام 1250 إلى عام 1517م لا ينسون فضائل الدولة الفاطمية التي كانت راعية للعلم والعلماء ومشجعة أهل الإبداع، ويتخذون من مبدعي وفناني الدولة الفاطمية أساتذة لهم.
8- الخط العربي
في العصر العثماني
ورث العثمانيون الخط عن مدرسة تبريز التي ازدهرت ليس في الخط فحسب، وإنما في صناعة الكتاب أيضاً، بل ونشطت فيما يتعلق بالكتاب من صناعة الورق والكرتون والخط والزخرفة والتجليد والرسوم والتذهيب وغير ذلك. وكان لأساتذتهم الإيرانيين الفضل في هذا التفوق الذي أحرزوه، فصاروا لهم أنداداً، وصار الأتراك يمثلون مدرسة مستقلة ذات شهرة متميزة في خط الثلث، ولكبار الخطاطين الأتراك مصاحف كثيرة محفوظة إلى الآن في المتاحف التركية، وخاصة في متحف الأوقاف في استانبول، حيث أضافوا إلى هذا الخط الجميل زخرفة وتجليداً أنيقين.
وراح خطاطو الأتراك يبدعون في خط المصاحف الصغيرة التي توضع في الجيب، وحيث أن الدولة العثمانية دولة خلافة إسلامية سنيّة فإنها شجعت على انتشار الخط العربي بأنواعه، بحيث (انتحل الترك أنفسهم الخط العربي، ولا تجد في تركيا إنساناً على شيء من التعليم لا يستطيع أن يفهم لغة القرآن بسهولة)( ).
ونال الخطاطون احترام الخلفاء، فنالوا منهم الحظوة، وأغدقوا عليهم العطايا، وجعلوهم من المقربين منهم، وأسندوا لهم العمل في الدواوين التابعة للدولة، وبرواتب عالية. لكنهم رغم هذا الاحترام والإكرام لم يبلغوا ما أوصلهم إليه العرب من مكانة حين عيّنوهم في مناصب وزاوية مراراً كما حدث للخطاط ابن مقلة مثلاً.
لقد امتلأت مساجد الخلافة العثمانية بالخطوط الرائعة، والزخارف الجميلة لكبار الخطاطين الأتراك، وغير الأتراك الذين استقطبتهم دار الخلافة العثمانية للعمل في عاصمة الدولة برواتب عالية.
وفي الفترة المتأخرة لهذه الخلافة برز خطاطون طبّقت شهرتهم العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، وخلدوا لنا لوحاتهم الرائعة.
أولهم : الخطاط الشيخ حمد الله الأماسي الذي يعتبر إمام الخطاطين الأتراك.
الثاني : الخطاط الحافظ عثمان الملقب جلال الدين الذي كتب خمسة وعشرين مصحفاً بيده. وقد طبع مصحفه الشريف في سائر البلاد العربية والإسلامية، وخاصة في دمشق فقد تبنّته مطبعتان عريقتان هما مطبعة الملاح والمطبعة الهاشمية، ولأكثر من نصف قرن طبعتا عشرات الطبعات بعضها مهمّش بتفسير الجلالين، أو أفردوا أجزاءه في طبعات مستقله.
الثالث : الخطاط رسا الذي خط لوحات في المساجد التركية، ومساجد بلاد الشام وغيرها لا تزال باقية لوحاتها المعدنية أو المرقومة على الجدران الجصية أو المنحوتة على الرخام.
إن العصر العثماني هو عصر نضوج الخط العربي في العصور المتأخرة، ونستطيع أن نسميه العصر الذهبي للخط العربي وذلك لأسباب كثيرة منها:
1- أن الدولة العثمانية دولة واسعة المساحة، جمعت الجنسيات والألسن والألوان البشرية المختلفة تحت مظلة الإسلام.
2- أن فترة حكمها طالت حتى بلغت أربعة قرون.
3- كانت تعتبر التصوير حراماً، لذلك شجّعت الخطوط والزخارف والنقوش لسد فراغ تحريم التصوير.
4- كان الخلفاء يقربون منهم العلماء والأدباء والمبدعين، ويستقطبونهم إلى عاصمة خلافتهم، ويغدقون عليهم المنح والعطايا المختلفة، بل نجد بعض الخلفاء قد تتلمذ على أيدي الخطاطين، وأخذوا عنهم مبادئ الخط العربي.
5- كان (خطاط السلطان الخاص يتقاضى أربع مائة ليرة عثمانية ذهباً في الشهر)( ).
6- بلغ الشعب التركي من الترف ما جعل ذوي الإبداع يعملون في قصورهم النقوش والزخارف والرسوم بمبالغ عالية.
7- استطاع الخطاطون الأتراك في ظل تكريم الدولة لهم، وإغداقها العطايا عليهم، أن يبتكروا خطوطاً جديدة كالرقعة والطغراء والديواني وغيرها.
فلا غرابة أن نجد كبار الخطاطين الأتراك يتظاهرون في شوارع العاصمة استانبول استنكاراً لاستقدام أول مطبعة للدولة العثمانية وهم يحملون محابرهم وقصباتهم في نعش، ويطوفون بها شوارع المدينة( ) لقناعتهم أن الآلة الطابعة ستقضي على روح الإبداع والجهد الفردي الذي يزاوله الخطاطون.
وبرزت في ساحة الخط العربي في تركيا أسماء خطاطين احتلوا الصدارة إلى الآن منهم: سامي (1330هـ) وعبد الله الزهدي (1296هـ) وإبراهيم علاء الدين (1305هـ) ومصطفى نظيف (1331هـ) وحامد الآمدي (1980م) وحقي (1365هـ) ومحمد أمين (1372هـ) ومصطفى أرقم، وإسماعيل زهدي شقيق الخطاط راقم ومصطفى عزت، ومحمد شوقي، وأحمد كامل، ومحمود يازر، وعبد العزيز الرفاعي وغيرهم.
إن رحلة الخطاطين الأتراك مع الخط العربي رحلة طويلة، أظهروا من خلالها مقدرتهم الفنية في رفد الخطوط العربية القديمة بخطوط عربية من ابتكارهم حملت أسماءهم. وسيبقى تاريخ الخط العربي يفخر بما قدّمه الأتراك من خدمات جلّى لهذا الفن البديع.
9- الخط العربي في إيران
استطاع الفنانون الإيرانيون أن يبدعوا في الفن التصويري لمضامين المخطوطات الفارسية والعربية، كما نجحوا في تجويد الخط وتحسينه وتطويره، فقد امتاز الخطاط الإيراني بالجودة والإتقان، وكان في أغلب أحيانه مبدعاً في لوحاته، مبتكراً في إنتاجه، عبقرياً في بحثه العميق.
ابتكر الخطاطون الإيرانيون الخط الفارسي في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي). ثم ابتكروا خط (النستعليق) من الخط الفارسي والنسخ والتعليق، وكان هذا الابتكار بجهود الخطاط الكبير عماد الدين الشيرازي الحسني، إذ وضع له قاعدة اشتهرت باسمه فيما بعد فسمّيت (قاعدة عماد).
كما حوّروا الخط الكوفي (فأصبحت المدّات فيه أكثر من الجرّات)( ).
واشتهرت مدينة مشهد بخط النستعليق حتى كادت أن تسبق جميع المدن الإيرانية، ووقفت مشدوهاً أمام تلك الخطوط في هذه المدينة وخاصة في جامع الإمام الرضا ذي القباب الذهبية في ربيع عام (1416هـ 1996م) خلال زيارتي الأولى لإيران.
وقد رأيت إبداعات أولئك الخطاطين الإيرانيين في مشهد تفوق ما قدّم غيرهم، فالخطوط التي نقشت على القباب والمآذن تحكي قصة الإتقان والجودة. وقد أجاد الخطاطون في نقش الخطوط وزخرفتها على قطع السيراميك في شوارع المدينة على كثرتها، بحيث يرى السائر فيها أنه في متحف مفتوح للخط العربي.
أما مدينة أصفهان التي يقول أهلها أنها (نصف جهان) أي نصف العالم فهي عاصمة الدولة الصفوية التي خلفت لنا خطوطاً ولوحات وزخارف يعتز بها كل مسلم، ويحق لهذه المدينة أن تتربّع على عرش الفن الإسلامي، برسومه، وخطوطه، وزخارفه. وذلك من خلال ما خلّفوه لنا من أوابد أصبحت بالنسبة لنا متاحف مفتوحة للمشاهدين والزوار.
من هذه الأماكن الأثرية التي احتوت خطوطاً رائعة:
1-الجامع الكبير في أصفهان (جامع الإمام).
2-جامع لطف الله.
3-الأربعون عموداً.
4-الجسور الكثيرة المنتشرة على نهرها الكبير (زينده رود) مثل جسر خاجو. وشاهدت براعة الخطاط الإيراني الفنية قبل أن يكون خطاطاً في القباب والمآذن، والإيوانات والجسور، والحوزات، والمدارس، مما يجعل الباحث والزائر لهذه المدينة التاريخية يشهد لها بالفن والإبداع.
وقد اهتم شاهات فارس وأمراؤها بالخط (فقد أنشأ الوزير المغولي رشيد الدين ضاحية سماها (ربع رشيد) كذلك أصبحت هراة في عهد الصفويين عاصمة الخط والتصوير، وكان بهزاد معلم التصوير، وموجه الخطاطين)( ).
ولم تقتصر أمور الخط والإبداع على الخطاطين الذين اعتمدوا الخط فناً ومهنة، بل تعدّتهم إلى الأمراء والحكام وذوي السلطان، فقد كانوا يجدون في النسخ والخط شرفاً وبركة ومجداً. فهم يعتزون بنسخ القرآن الكريم مسترشدين بتوجيهات كبار الخطاطين مثل (عضد الدولة البويهي، والشاه طهماسب، بل كان الأمراء منهم-الفرس- يتسابقون لمساعدة الخطاطين بأن يمسكوا لهم بالمحبرة. أو يقدموا معونة بوضع الوسائد بمكانها، أو بإمساك الشمعدان)( ). وكأنهم بهذا الاحترام الزائد يقلدون أبناء ملوك العرب كالأمين والمأمون اللذين كانا يتسابقان لتقديم حذاء معلمهم ومؤدبهم الكسائي.
حقاً لقد أجاد الخطاط الإيراني أكثر مما نال من حظوة الشاهات والأمراء، وذلك لأن طبعه الفني مغروس فيه ومتوارث، فهو لا يتهالك من أجل أن يتقرّب بخطوطه وفنه من الأمراء، وما حدث من ذلك فأمر عارض، لا يقصد به صاحبه أكثر من إيصال فنه وإبداعه إلى كبار المسؤولين في الدولة.
خط التعـليق
10- الخط العربي في أوربا
دخل الخط العربي إلى أوربا من عدة محاور، وكان في كل مرة يحمل طابعاً يختلف عن سابقه، لأن ظروف دخول الخط تختلف في الزمان والمكان.
1-عن طريق آسيا الوسطى وبعد دخول العثمانيين مدينة القسطنطينية.
2-عن طريق الحملات الصليبية المتكررة على مشرق العالم العربي ومغربه، براً وبحراً ومن دول مختلفة في اللسان والمذهب والقومية من أوربا.
3-عن طريق الأندلس بعد الفتح العربي الإسلامي لها وانتشار الجامعات الكبرى فيها ودخول أبناء ملوك أوروبا فيها، ونقل الحضارة الإسلامية إلى أوروبا عن طريقها.
4-عن طريق صقلية حيث دخل العرب المسلمون إلى إيطاليا وحاصروا روما، وساحوا في كثير من مدن الدولة الرومانية.
وبذلك أصبحت أوروبا مدينة للعرب الذين أوصلوا لها الثقافة والمعرفة والعلوم إلى جانب الخط، واللوحة الفنية، والنقطة الحسابية(الصفر).
وأكثر ما نجد ذلك في أبواب ونوافذ الكنائس والكاتدرائيات، وقصور الملوك والأمراء والنبلاء للزينة، وذلك في صقلية وإيطاليا وألمانيا وفرنسا، ودخلت كثير من هذه الخطوط متاحف روما وباريس وفيّنا وأمستردام، وهذا ما دعا الكاتب الفرنسي مارسيه لأن يعترف بفضل العرب في الخط والفنون على أوروبا حيث يقول: (لقد كانت الحضارة العربية الإسلامية شديدة التغلغل في عالمنا، حتى أن العناصر الإسلامية طغت منذ نهاية القرن الحادي عشر في واجهات الكنائس الرومية، ثم رأيناها فيما بعد تختلط في الكنائس القوطية مع العناصر الواردة من فرنسا)( ).
وقد امتدت فتوحات العثمانيين إلى وسط أوروبا، بل تعمقوا فيها غرباً فوصلوا سويسرا، وأشادوا القلاع والحصون، وتركوا آثاراً وبصمات عربية اللسان والحرف، لكنها عثمانية تركية المنشأ، ومن يزور متاحف أوروبا يقف مبهوتاً في كل متحف لتلك الخطوط الرائعة والتحف الشرقية المزخرفة التي نقلها الصليبيون أو لصوص الآثار أو تجارها إلى متاحف تلك المدن الكبيرة، وهي في أًصلها من دمشق وبغداد والقاهرة وإيران.
وقد شهدت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة بعظمة الخط والفن العربي في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب، الذي ينطق بكل حرف فيه بمقدرة الإنسان العربي والمسلم على استمرارية العطاء الفني من خلال رسم الحرف العربي واللوحة الزخرفية سواء في مسجد أو متحف أو حمّام أو قبة ضريح، أو ثياب ملك.
الباب الثاني :
أنواع الخط العربي
1-الخط الكوفي
2-خط الرقعة
3-خط النسخ
4-خط الثلث
5-الخط الفارسي
6-خط الإجازة
7-خط الديواني
8-خط الطغراء
9-خط التاج
10-الخط المغربي
سار الخط العربي في رحلة حياته مسيرة طويلة، فقد نشأ نشأة عادية وبسيطة، ثم تطور مع تطور الحياة. وإذا ما حاولنا دراسة هذه الرحلة تبين لنا أن مسيرته قبل الإسلام كانت بطيئة جداً بينما نجده يقفز قفزات سريعة بعد الإسلام ويصل إلى درجة الإبداع، حيث تناوله الخطاطون بالتحسين والتزويق، وأضفوا عليه من إبداعهم جماليات لم تخطر على بال فنان سابق، لِما صبُّوا في الحرف العربي من قواعد ثابتة، وأصول يجب على الخطاط أن يلتزم بها ليكون خطاطاً ناجحاً.
وقد استطاع الخطاط العربي أن يبتكر خطوطاً جديدة من خطوط أخرى فهذا ابن مقلة يبتكر خط الثلث، لقد اشتقه من خطّي الجليل والطومار، وسمّاه في أول الأمر (خط البديع)( ) وقد استطاع أن يحسّنه ويجوّده حتى فاق فيه غيره، واشتهر بنيل قصب السبق فيه إلى عصرنا هذا، ولم يتجرّأ خطّاط أن يتقدمه، فاعتبره الخطاطون فيما بعد مهندساً للحروف العربية، لأنه قدّر مقاييسها وأبعادها بالنقط، فلكل حرف أبعاده الثابتة، ولكل بُعد نقطه المحدّدة التي لا يجوز تجاوزها.
ثم جاء ابن البواب فزاده جودة وجمالاً، وأسبغ عليه من ذوقه.
واستطاع الخطاط التركي ممتاز بك أن يبتكر خط الرقعة من الخط (الديواني) وخط (سياقت) حيث كان خط الرقعة خليطاً بينهما.
وقام الخطاط مير علي سلطان بتطوير وتحسين خط الإجازة.
وبرع الخطاط عثمان في الخط الديواني وفاق مبتكريه أيام السلطان محمد الفاتح.
وهكذا استمرت رحلة الخط جودة وتطويراً، وابتكاراً حتى كان الخط الحديث الذي ظهرت له الآن نماذج كثيرة خالية من القواعد والضوابط.
وقد سميت الخطوط العربية بأسماء المدن أو الأشخاص أو الأقلام التي كتبت بها، وقد تداخلت هذه الخطوط في بعضها، واشتق بعضها من الآخر، وتعددت رسوم الخط الواحد، فكانت لكثرتها تشكل فناً من الفنون التي أبدعها الخطاطون العظام كالخط الكوفي مثلاً، وقد تطورت هذه الخطوط نتيجة إبداع المهتمين بها والمتخصّصين بكل خط منها، فبلغت ذروتها لدى المتأخرين، وإن كان الأوائل قد نالوا قصب السبق فيها على جدران بغداد ودمشق والقاهرة والأندلس.
1- الخط الكوفي
يعتبر الخط الكوفي من أقدم الخطوط، وهو مشتق من الخط النبطي (نسبة للأنباط) الذي كان متداولاً في شمال الجزيرة العربية وجبال حوران، وقد اشتقه أهل الحيرة والأنبار عن أهل العراق، وسمي فيما بعد بـ(الخط الكوفي) حيث انتشر منها إلى سائر أنحاء الوطن العربي، ولأن الكوفة قد تبنّته ورعته في البدء. وقد كتبت به المصاحف خمسة قرون حتى القرن الخامس الهجري، حين نافسته الخطوط الأخرى كالثلث والنسخ وغيرهما.
(وأقدم الأمثلة المعروفة من هذا الخط من القرآن نسخة سجلت عليه وقفية مؤرخة في سنة (168هـ= 784-785م) وهي محفوظة في دار الكتب المصرية بالقاهرة)( ).
كان الخطاطون والوراقون يزخرفون المصاحف وعناوين السور زخرفة جميلة، وبعضهم يزخرفون بداية المصحف ونهايته أيضاً بزخارف جد بديعة، من مربعات ومستطيلات، وزخارف متعاشقة، وصور مقرنصات نازله وطالعة. وأشجار مروحية أو نخيل، مما يزيد جمال الخط جمالاً أخّاذاً.
تمتاز حروف الخط الكوفي بالاستقامة، وتكتب غالباً باستعمال المسطرة طولاً وعرضاً، وقد اشتهر هذا الخط في العصر العباسي حتى لا نكاد نجد مئذنة أو مسجداً أو مدرسة أو خاناً يخلو من زخارف هذا الخط. (ويعتمد هذا الخط على قواعد هندسية تخفف من جمودها زخرفة متصلة أو منفصلة تشكّل خلفية الكتابة)( ).
وقد تطور هذا الخط تطوراً مذهلاً، حتى زادت أنواعه على سبعين نوعاً، كلها ترسم بالقلم العادي على المسطرة، ولم يعد وقفاً على الخطاطين، فقد برع فيه فنّانون ونقاشون ورسامون، وغير مهتمين بالخط، بل برع فيه كثير من هواة الرسم والذوق، وابتكروا خطوطاً كثيرة لها منها (الكوفي البسيط، والكوفي المسطّر- ويسمى: المربع، أو الهندسي التربيعي- والخط الكوفي المسطّر المتأثر بالرسم، والخط الكوفي المسطّر المتأثر بالفلسفة، والخط الكوفي المتشابك، والكوفي المتلاصق، والكوفي المورّق. الذي قال عنه الخطاط كامل البابا: (لقد نفخ العربي في الحرف الحياة، وحوّله من جماد إلى نبات، تنبثق عنه أغصان وأوراق وأزهار)( ). والخط الكوفي المزخرف، والمزيّن، والمظفور، والكوفي الأندلسي والخط الكوفي الفاطمي، والكوفي الأيوبي، والكوفي المملوكي. (وكان كتّاب الوحي يكتبون به آيات القرآن الكريم على سعف النخيل والجلود ورقائق العظام، وكان الناس في العصر الجاهلي والراشدي يكتبونه بشكل بدائي وبسيط، خالياً من النقط والهمزات والتشكيل)( ).
ويعتبر الخط الكوفي أفضل أنواع الخطوط العربية للفن والزخرفة، وهذا ما دعا غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) لأن يقول: (إن للخط العربي شأن كبير في الزخرفة، ولا غرو فهو ذو انسجام عجيب مع النقوش العربية، ولم يستعمل في الزخرفة حتى القرن التاسع الميلادي غير الخط الكوفي ومشتقاته كالقرمطي والكوفي القائم الزوايا)( ).
ولا يعتبر من يتقن هذا الخط خطاطاً بارعاً، بل يعتبرونه فناناً، لأنه لم يعد وقفاً على الخطاطين، بل برع فيه النحاتون على الرخام أيضاً، والمزخرفون على جدران الجص وغيره.
وقد تراجع الخط الكوفي من واجهات الأبنية، وكتابات الخطاطين منذ القرن السادس الهجري، إذ راح الخط النسخي يحلّ محله شيئاً فشيئاً (ثم حل محل الخط الكوفي القديم بالمنطقة المغربية الإسلامية خط جديد مازال يستعمل في المغرب وطرابلس وما بينهما، وعرف باسم الخط العربي)( ).
وراح هذا الخط يملأ عناوين الكتب وخطوطها، ورؤوس الفصول والأبواب والحواشي في سائر الكتب التي تنسخ من طرابلس إلى أقصى المغرب، ومن ثم إلى الأندلس، حتى أننا نجد هذا الخط في زخارف ونقوش على الحجر والجبس في الجدران والقصور والحصون والقلاع والمساجد، وعلى أبواب ونوافذ المنشآت الضخمة، وفي بيوت وقصور الأمراء والأثرياء.
وأشهر من كان يكتبه من الخطاطين المعاصرين المرحوم الأستاذ يوسف أحمد بمصر، وله به تخصص وإتقان)( ).
يستعمل هذا الخط بأنواعه المختلفة والكثيرة للزخارف والزينة، وأحياناً يغوص الخطاطون فيه في التعقيد والإبهام، حتى ليصعب على القارئ العادي أن يقرأ كلمة منه. وكتبت به المصاحف على الرق حتى القرن التاسع الميلادي حيث ظهرت الخطوط الكوفية فيها غليظة ومستديرة، وذات مدّات قصيرة. وقد (استخدم الخط الكوفي في مصر والشام والعراق خلال القرن التاسع وشطراً من القرن العاشر الميلادي)( ). واستمر استعماله حتى القرن الحادي عشر حيث قلّ استعماله في كتابة القرآن الكريم، وأصبح خط النسخ بديلاً له، حيث بقيت البسملة في المصاحف بهذا الخط.
2- خط الرقعة
هو خط الناس الاعتيادي في كتاباتهم اليومية، وهو أصل الخطوط العربية وأسهلها، يمتاز بجماله واستقامته، وسهولة قراءته وكتابته، وبعده عن التعقيد، ويعتمد على النقطة، فهي تكتب أو ترسم بالقلم بشكل معروف.
يقول البعض: إن تسميته نسبة إلى كتابته على الرقاع القديمة، لكن هذه التسمية لم تلاق استحساناً لدى الباحثين الذين قالوا: (إن الآراء غير متفقة على بدء نشوء خط الرقعة وتسميته، التي لا علاقة لها بخط الرقاع القديم، وأنه قلم قصير الحروف، يحتمل أن يكون قد اشتق من الخط الثلثي والنسخي وما بينهما، وأن أنواعه كثيرة)( ).
وكان فضل ابتكاره للأتراك قديم، إذ ابتكروه حوالي عام 850هـ، ليكون خط المعاملات الرسمية في جميع دوائر الدولة، لامتياز حروفه بالقصر وسرعة كتابتها.
يستعمل خط الرقعة في كتابة عناوين الكتب والصحف اليومية والمجلات، واللافتات والدعاية. ومن ميزة هذا الخط أن الخطاطين حافظوا عليه، فلم يشتقوا منه خطوطاً أخرى، أو يطوِّروه إلى خطوط أخرى، تختلف عنه في القاعدة، كما هو الحال في الخط الفارسي والديواني والكوفي والثلث وغيرها.
ويعتبر خط الرقعة من الخطوط المتأخرة من حيث وضع قواعده فقد (وضع أصوله الخطاط التركي الشهير ممتاز بك المستشار في عهد السلطان عبد المجيد خان حوالي سنة 1280 هجرية، وقد ابتكره من الخط (الديواني) وخط (سياقت)
حيث كان خليطاً بينهما قبل ذلك( ).
إنَّ خط الرقعة هو الخط الذي يكتب به الناس في البلاد العربية عدا بلدان المغرب العربي عموماً، وإن كان بعض العراقيين يكتبون بالثلث والنسخ.
3 - خط النسخ
يعتبر خط النسخ من أقرب الخطوط إلى خط الثلث، بل نستطيع أن نقول: (إنه من فروع قلم الثلث، ولكنه أكثر قاعدية وأقل صعوبة، وهو لنسخ القرآن الكريم، وأصبح خط أحرف الطباعة)( ).
وهو خط جميل، نسخت به الكتب الكثيرة من مخطوطاتنا العربية، ويحتمل التشكيل، ولكن أقلّ مما امتاز به خط الثلث. وقد امتاز هذا الخط في خطوط القرآن الكريم، إذ نجد أكثر المصاحف بهذا الخط الواضح في حروفه وقراءته، كما أن الحكم والأمثال واللوحات في المساجد والمتاحف كتبت به..
وخط النسخ الذي يكتبه الخطاطون اليوم؛ هو خط القدماء من العباسيين الذين ابتكروا وتفننوا فيه، فقد (حسَّنه ابن مقلة، وجودّه الأتابكيون وتفنن في تنميقه الأتراك، حتى وصل إلينا بحلَّته القشيبة، بالغاً حدّ الجمال والروعة).( )
وتستعمل الصحف والمجلاَّت هذا الخط في مطبوعاتها، فهو خط الكتب المطبوعة اليوم في جميع البلاد العربية. وقد طوّر المحدثون خط النسخ للمطابع والآلات الكاتبة، ولأجهزة التنضيد الضوئي في الكمبيوتر، وسمّوه (الخط الصحفي) لكتابة الصحف اليومية به.
وأشهر خطاط معاصر أبدع فيه هو هاشم محمد البغدادي، فقد ظهرت براعة قصبته في كتابه (قواعد الخط العربي) الذي يعتبر الكتاب الأول في مكتبات الخطاطين الكبار والمبتدئين.
4- خط الثلث
يعتبر خط الثلث من أجمل الخطوط العربية، وأصعبها كتابة، كما أنه أصل الخطوط العربية، والميزان الذي يوزن به إبداع الخطاط. ولا يعتبر الخطاط فناناً مالم يتقن خط الثلث، فمن أتقنه غيره بسهولة ويسر، ومن لم يتقنه لا يُعدّ بغيره خطاطاً مهما أجاد.
وقد يتساهل الخطاطون والنقاد في قواعد كتابة أي نوع من الخطوط، إلاّ أنهم أكثر محاسبة، وأشد تركيزاً على الالتزام في القاعدة في هذا الخط، لأنه الأكثر صعوبة من حيث القاعدة والضبط.
وقد تطور خط الثلث عبر التاريخ عما كان عليه في الأصل الأموي (الطومار) فابتكر منه (خط المحقق) و(الخط الريحاني) خطاط بغداد ابن البوّاب. ثم خط (التوقيع) ثم خط (الرقاع) ثم خط (الثلثين) وهو خط أصغر من خط الطومار. وخط (المسلسل) الذي ابتدعه الخطاط (الأحول المحرر) ثم خط الثلث العادي، وخط (الثلث الجلي) وخط (الثلثي المحبوك) والخط (الثلثي المتأثر بالرسم)، والخط (الثلثي الهندسي)، والخط (الثلثي المتناظر)( ).
استعمل الخطاطون خط الثلث في تزيين المساجد، والمحاريب، والقباب، وبدايات المصاحف. وخطّ بعضهم المصحف بهذا الخط الجميل. واستعمله الأدباء والعلماء في خط عناوين الكتب، وأسماء الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية والشهرية، وبطاقات الأفراح والتعزية، وذلك لجماله وحسنه، ولاحتماله الحركات الكثيرة في التشكيل سواء كان بقلم رقيق أو جليل، حيث تزيده في الجمال زخرفة ورونقاً.
يعتبر ابن مقلة المتوفى سنة (328هـ)، واضع قواعد هذا الخط من نقط ومقاييس وأبعاد، وله فضل السبق عن غيره، لأن كل من جاء بعده أصبح عيالاً عليه.
وجاء بعده ابن البواب علي بن هلال البغدادي المتوفى سنة (413هـ)، فأرسى قواعد هذا الخط وهذّبه، وأجاد في تراكيبه، ولكنه لم يتدخل في القواعد التي ذكرها ابن مقلة من قبله فبقيت ثابتة إلى اليوم.( )
وأشهر الخطاطين المعاصرين الذين أبدعوا في خط الثلث هو المرحوم هاشم البغدادي رحمه الله.
ورغم أن الخطاطين الإيرانيين قد سبقوا غيرهم في الخط الفارسي (النستعليق) إلا أنني رأيت عدداً من اللوحات الرائعة بهذا الخط في طهران، استطاع الخطاط الإيراني أن يكسب فيها مقدرته الفنية، ويكسر الطوق الذي يقول: (إن إبداعه اقتصر على الخط الفارسي)..
الخط العربي (ص60).
5 - الخط الفارسي
ظهر الخط الفارسي في بلاد فارس في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي. ويسمى (خط التعليق) وهو خط جميل تمتاز حروفه بالدقة والامتداد. كما يمتاز بسهولته ووضوحه وانعدام التعقيد فيه. ولا يتحمّل التشكيل، رغم اختلافه مع خط الرقعة.
وكان الإيرانيون قبل الإسلام يكتبون بالخط(البهلوي) فلما جاء الإسلام وآمنوا به، انقلبوا على هذا الخط فأهملوه، وكتبوا بالخط العربي، وقد (اشتق الإيرانيون خط التعليق من خط كان يكتب به القرآن آنئذ، ويسمى (خط القيراموز) ويقال : إن قواعده الأولى قد استنبطت من (خط التحرير) و(خط الرقاع) و(خط الثلث).( )
وقد طوّر الإيرانيون هذا الخط، فاقتبسوا له من جماليات خط النسخ ما جعله سلس القياد، جميل المنظر، لم يسبقهم إلى رسم حروفه أحد، وقد (وضع أصوله وأبعاده الخطاط البارع الشهير مير علي الهراوي التبريزي المتوفى سنة 919 هجرية).( ) (ويحتمل أنه كان تلميذاً لزين الدين محمود، ثم انتقل مير علي سنة 1524م من هراة إلى بلاد الأوزبك في بخارى، حيث عمل على استمرار التقاليد التي أرستها مدرسة هراة في فنون الخط).( )
ونتيجة لانهماك الإيرانيين في فن الخط الفارسي الذي احتضنوه واختصوا به، فقد مرّ بأطوار مختلفة، ازداد تجذراً وأصالة، واخترعوا منه خطوطاً أخرى مأخوذة عنه، أو هي إن صح التعبير: امتداد له، فمن تلك الخطوط:
1 ـ خط الشكستة: اخترعوه من خطي التعليق والديواني. وفي هذا الخط شيء من صعوبة القراءة، فبقي بسبب ذلك محصوراً في إيران، ولم يكتب به أحد من خطاطي العرب أو ينتشر بينهم.
2 ـ الخط الفارسي المتناظر: كتبوا به الآيات والأشعار والحكم المتناظرة في الكتابة، بحيث ينطبق آخر حرف في الكلمة الأولى مع آخر حرف في الكلمة الأخيرة، وكأنهم يطوون الصفحة من الوسط ويطبعونها على يسارها. ويسمى (خط المرآة الفارسي)..
3 ـ الخط الفارسي المختزل: كتب به الخطاطون الإيرانيون اللوحات التي تتشابه حروف كلماتها بحيث يقرأ الحرف الواحد بأكثر من كلمة، ويقوم بأكثر من دوره في كتابة الحروف الأخرى، ويكتب عوضاً عنها. وفي هذا الخط صعوبة كبيرة للخطاط والقارئ على السواء( ).
لقد رأيت إبداع الإيرانيين في هذا الخط (الفارسي)، ويظهر ذلك الإبداع في الأوابد الأثرية والمساجد والحوزات والمآذن والقباب، وقصور الشاهات الصفويين، وفي جميع المدن التي زرتها عام 1996، وهي طهران،
أصفهان، مشهد الرضا، حيث رأيت ظاهرتين قد لا توجدان في بلد من بلدان العالم هما:
أولاً : نظافة المدن وجمالها وحسن تنسيق الشوارع وتنظيمها.
ثانياً : الخطوط والزخارف التي تملأ الشارع الإيراني.
يستعمل خط التعليق (الفارسي) في كتابة عناوين الكتب والمجلات والإعلانات التجارية، والبطاقات الشخصية واللوحات النحاسية.(ومن مميزاته ميل حروفه من اليمين إلى اليسار في اتجاهها من الأعلى إلى الأسفل).( )
ومن وجوه تطور الخط الفارسي (التعليق) مع خط النسخ أن ابتدعوا منهما خط (النستعليق) وهو فارسي أيضاً. وقد برع الخطاط عماد الدين الشيرازي الحسني في هذا الخط وفاق به غيره، ووضع له قاعدة جميلة، تعرف عند الخطاطين باسمه. وهي (قاعدة عماد).
كما اشتهر هذا الخط في مدينة مشهد حتى كان من أفضل الخطوط التي انفردت بها هذه المدينة، بل اشتهر خاصة في بلاد إيران دون غيرها. (ويمتاز الخط الفارسي باختلاف عرض حروفه، وبعض الحروف تكتب بثلث عرض القَطَّة، كما يمتاز بعدم تداخل حروفه مع حروف قلم آخر)( )..
وكان أشهر من كان يكتبه بعد الخطاطين الإيرانيين محمد هاشم الخطاط البغدادي والمرحوم محمد بدوي الديراني بدمشق.( )
ويبقى قصب السبق في هذا الخط للخطاطين الإيرانيين بلا منازع.
تاريخ الخط العربي
مؤلفه : أحمد شوحان
تقديم : الدكتورة خيال الجواهري
الإهــــداء
إلى عاشقي الخط العربي الذي نزل به القرآن فزاد في جماله جمالاً.
الذين يعكفون على إحياء هذا التراث الرائع، والسحر الحلال، الذي يفخر به العرب وغيرهم.
أولئك الذين يعملون بصمت، ويعيشون بعيداً عن الأضواء، والشهرة، والجاه والمال.
أولئك هم المخلصون حقاً.
أتقدم إليهم بهذه الرسالة المتواضعة عرفاناً بجميلهم، وتقديراً لمواهبهم.
أحمد شوحان
المقدمة
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم.
والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي الذي بعثه الله رحمة للعالمين وجعل من أمته الأمية خير أمة أخرجت للناس، كانت في جاهلية جهلاء، فأنزل الله على رسوله (إقرأ) فأصبحت بها حين قرأت وكتبت معلمة العالم، وحاملة راية الفكر والعلم عن بني البشر قروناً.
وفي هذه الرسالة اللطيفة نسير مع الخط العربي، هذا الحرف المقدس الذي نزل به القرآن الكريم، وجعل النطق به عبادة لله التي لا يقبل الله صلاة بغيره.
وجعل فيه سر إعجازه وبيانه، فزاد هذا الحرف جمالاً إلى خصوصياته، مما جعل الخطاطين عبر العصور وفي سائر البلاد التي يوجد فيها فنانون وخطاطون يتبارون في رسم حروفه فيطرزونها وينمقونها، ويجعلون من هذا الحرف الصامت حرفاً ينطق بحركة الحيوية، ليعبر عن جماله في تلك الأشكال والحركات التي جعلته يتكلم من غير لسان، وتفوح رائحته العطرة من خلال متابعة الكلمة الواحدة حرفاً حرفاً.
لقد تناولت في هذه الرسالة المتواضعة رحلة الخط العربي منذ أن كان في أعماق الجزيرة العربية (مسنداً) على القبور والآثار إلى أن أصبح لوحات حديثة في المتاحف ومعارض الخط، وذلك من خلال وجهة نظري ككاتب وباحث لا من وجهة نظر الفنان والخطاط الذي يتابع الحرف والكلمة لدى المبدعين وذوي الاختصاص، ولذا أرجو المعذرة من هؤلاء الخطاطين الذين ينظرون إلى الكتابة عن الخط وتاريخه كما ينظرون إلى جمالية الخط وإبداع الخطاط في لوحته.
وسيجد القارئ الكريم في الباب الثالث (الخطاطون العظام) تراجم المشهورين من القدماء والمحدثين، وإن كنت قد اختصرته على أقل القليل بغية الإحاطة بحياتهم، وتيسيره للقارئ.
أرجو الله أن يوفقني لما يحبه ويرضاه لخدمة تراثنا العربي والإسلامي الذي نعتز به، إنه نعم المولى ونعم النصير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
دير الزور في 15 رمضان 1421هـ
الموافق 11 كانون الأول 2000م.
أحمد شوحان
الخطاط
هو الفنان الذي يجعل من الحروف العربية لوحة فنية يقف أمامها المشاهد مبهوتاً يفكر في دقة الكتابة، وروعة القصبة، وعبقرية الخطاط.
ولا يقتصر الخطاط على صناعة لوحة فنية من الحروف العربية، لكنه يصنع منها لوحات كثيرة، كل واحدة منها تحكي براعته في صناعة تلك التحف التي يعجز عن مثلها النحات والمصور والمغني والكاتب ونحوهم.
إن الخطاط المبدع هو الذي يجعل موهبته في اللوحة تتكلم من خلال رشاقة الخط، وتناسق سطوره، ومدّاته وحركاته.
ونلمس قدرة الخطاط في إتقان مهنته، عندما نقف أمام لوحة من لوحاته فنجد حبرها متكاملاً في بداية الحرف الأول، ومتواصلاً في ذلك إلى نهاية الأخير، وأن قلمه (القصبة) التي كتب بها تناسب قطَّتُها حجم الخط ومساحة اللوحة، والقلم الذي يكتب فيه على ورق أو كرتون يختلف فيه نوعه وحجمه عما يكتب فيه على الخشب والجص والرخام والجلد والبلاستيك والزجاج والقماش وغيرها من مختلفات المواد.
وإذا كان الخطاط اليوم يستعمل الفرشاة في أغلب اللوحات فقد كان قديماً يكتب كل ذلك بالقلم (القصبة)، وحينما اخترع المتأخرون القصبة من معدن اعتبروا ذلك عيباً في الخطاط لأن قصبة الحديد لا تعطي ما تعطيه القصبة النباتية.
إن الخطاط فنان مبدع، يستحق الانحناء والتكريم تقديراً لما يقدمه من لوحات خطّية للأجيال القادمة.
فضل الخط
الخط والكتابة وجهان لعملة واحدة، وهما عصارة فكر الإنسان الذي فكر في الإبداع منذ الأزل، وسيبقى يفكر في خلود الذكر والأثر إلى الأبد.
لقد راح الباحثون يقلّبون أوراق السالفين للوصول إلى اقرأ وربُّك الأكرم، الذي علّمالمعلّم الأول لفن الخط؛ فكانت الآية الكريمة ( ).بالقلم
هي المعْلَم الذي يأخذ بيد الباحث إلى أن الله سبحانه هو المعلِّم .علّم بالقلمالأول لقوله:
وقد تحدّث العلماء عن فضيلة الخط، وجمالياته، وأسباب انتشاره أو انحساره، وتطوره وجموده، وكتبوا في ذلك الكثير، فنحن نرى الأبجدية الإنكليزية تغزو العالم في القرون الثلاثة الأخيرة بسبب الغزو العسكري، بينما نجد الأبجدية العربية تنتشر في العالم منذ خمسة عشر قرناً بسبب نشر الدعوة الإسلامية وتقبّل الشعوب هذه اللغة لأنها لغة القرآن ولغة الإسلام، ووسيلة التفاهم بين الشعوب الإسلامية.
وقد عرّف العرب الخط فقالوا: الخط لسان اليد.
وأسلس حاجي خليفة العنان لقلمه فكتب يقول: (ما من أمر إلاّ والكتاب موكل به، مدبّر له، ومعبّر عنه، وبه ظهرت خاصة النوع الإنساني من القوة إلى الفعل، وامتاز به عن سائر الحيوانات)( ).
ونظراً لقيمة الخط فإننا نرى الخطاط مثلاً يكتب الآية القرآنية، أو الحديث النبوي، أو الحكمة البالغة، فيزيد جمالها جمالاً في روعة خطه، وعصارة إبداعه، وإذا كانت اللوحة المخطوطة تحرك القلوب بنصّها، فإن الخطاط يهز مشاعر المشاهدين بجمال عطائه، ولذلك لم نجد خطاطاً واحداً كتب كلاماً سخيفاً ليزيّنه بجمال خطه، فالجمال لا يقع إلاّ على الجمال.
يقول الدكتور علي أرسلان –وهو خطاط وأستاذ بجامعة استانبول:
(يعتبر فن الخط، أصعب الفنون الإسلامية، وذلك لأن الفنان فيه لا يملك في يده غير القلم البسيط، وهذا القلم مسطرة الخطاط وبِرْجَلُهُ( ) . وهو قسطاسه الذي يعين به أحجام الحروف.
هذا القلم يقوم بأداء كل وظائف الآلات الأخرى التي يمتلكها الفنانون في سائر الفنون الأخرى. لذا تلزم الخطاط خصلتان رئيسيتان هما: القابلية وبذل الجهد)( ).
وبالإضافة إلى كون الخط فناً وذوقاً وجمالاً، فقد كان وما زال مورداً لرزق الكثيرين من الخطاطين والهواة، سواء في محلاّت في الأسواق أو تدريساً وتعليماً، أو تأليفاً وتحقيقاً.
ولذلك اعتبره الأدباء فناً ومورد رزق.
قال ابن المقفع: (الخط للأمير جمال، وللغني كمال، وللفقير مال).
وقال أحد الشعراء:
تعلّم قوام الخط يا ذا التأدب
فما الخط إلاّ زينة المتأدّب
تعلّم قوام الخط يا ذا التأدب
وإن كنت محتاجاً فأفضل( ) مكسب
وهذه المزايا التي امتاز بها الخط العربي من جمال وكمال ومال، قد لا نجدها في خط آخر من خطوط العالم.
قال أبو تمام يصف جمال رسالة جاءته فأعجب بها:
مداد مثلُ خافية الغراب
وقرطاس كرقراق السراب
وألفاظ كألفاظ المثاني
وخط مثل وشم يد الكَعاب
كتبتُ ولو قدرت هوى وشوقاً
إليكِ لكنتُ سطراً في( ) كتاب
وقد امتاز الخطاطون العرب والمسلمون بالجمع بين جمالية المقروء وإبداعية الخطاط الفنان، بمعنى أنهم كانوا يختارون أجمل اللفظ فيودعون فيه أجمل ما لديهم من جمالية الخط وروائعه. وهم بهذا يزيدون جمال المعنى اللفظي جمال الخط، فيكون في ذلك إبداع الصورة والمعنى.
ولقد تحدث عن ذلك القلقشندي حيث جعل الإبداع في الجمع بين الشكل والمضمون فقال: (اللفظ إذا كان مقبولاً حلواً رفع المعنى الخسيس وقرّبه من النفوس، وإذا كان غثاً مستكرهاً وضع المعنى الرفيع وبّعده من القلوب.
كذلك الخط إذا كان جيداً حسناً، بعث الإنسان على قراءة ما أودع فيه، وإن كان قليل الفائدة، وإذا كان ركيكاً قبيحاً صرفه عن تأمل ما تضمنه وإن كان جليل الفائدة)( ).
وحين راح الخطاطون يتفنّنون في الخط فيلغزون فيه ويمشقونه مشقاً( ).بحيث يتحول الخط إلى طلسم ولغز يصعب معرفته، نبّه العلماء إلى ضرورة حسن البيان في الخط وإيضاحه، حتى أن ابن سيرين كان يكره أن يُكتب القرآن مشقاً، ويقول: (أجود الخط أبينَهُ)( ). وذلك لسهولة القراءة، ومن ثم لسرعة الفهم.
الباب الأول:
رحلة الخط العربي
1-في العصر الجاهلي
2-في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم
3-في عصر الخلفاء الراشدين
4-في العصر الأموي
5-في العصر العباسي
6-في العصر الأندلسي
7-في العصر الفاطمي
8-في العصر العثماني
9-في إيران
10-في أوروبا
1- الخط العربي
في العصر الجاهلي
عرف العرب الخط منذ غابر العصور وقبل الأبجدية التي عثر عليها في أوغاريت (رأس شمرا) بآلاف السنين.
وقد عثر في الجزيرة العربية وفي أماكن مختلفة على كتابات عربية مدونة بخط (المسند) لذا اعتبره الباحثون والمؤرخون القلم العربي الأول والأصيل وهو خط أهل اليمن، ويسمونه خط (حِميَر).
وقد بقي قوم من أهل اليمن يكتبون بالمسند بعد الإسلام، ويقرؤون نصوصه، فلما جاء الإسلام كان أهل مكة يكتبون بقلم خاص بهم تختلف حروفه عن حروف المسند و دعوه (القلم العربي) أو (الخط العربي) حيناً و (الكتاب العربي) أو (الكتابة العربية) حيناً آخر تمييزاً له عن المسند.
(وكتب كتبة الوحي بقلم أهل مكة لنزول الوحي بينهم، وصار قلم مكة هو القلم الرسمي للمسلمين، وحكم على المسند بالموت عندئذ، فمات ونسيه العرب، إلى أن بعثه المستشرقون، فأعادوه إلى الوجود مرة أخرى، ليترجم الكتابات العادية التي دونت به). وجاء بعد الخط المسند الخط (الإرمي) نسبه إلى قبيلة إرم، وهو الخط الذي دخل الجزيرة العربية مع دخول المبشرين الأوائل بالنصرانية، حتى أصبح فيما بعد قلم الكنائس الشرقية.
وهناك القلم (الثمودي) نسبة إلى قوم ثمود.
والقلم (اللحياني) نسبة إلى قبيلة لحيان.
والقلم (الصفائي) الذي عرف بالكتابة الصفائية نسبة إلى أرض (الصفاة) وهي الأرض التي عثر بها على أول كتابة مكتوبة بهذا القلم.
وقد ذكر الدكتور جواد علي رحمه الله أكثر من عشرين احتمالاً لأول من كتب بالحرف العربي( ).
وإذا كنا اليوم نفتقر إلى تركة تفصّل لنا كل شيء عن المدى الذي بلغه العرب عبر تواريخهم السحيقة، فإننا في نهم شديد إلى البحث لاستكمال ما عثر عليه الآثاريون من لوحات وخطوط وآثار تشير إلى الحضارة العربية في الجزيرة العربية، والحضارة لا يمكن أن تبدع في ناحية وتعقم في أخرى، فالشعب الذي يقيم السدود منذ آلاف السنين لا بد أنه استعمل القلم والمسطرة والفرجار والمثلث، ورسم الأبعاد والجوانب لِما همَّ به قبل الشروع في السدّ، ثم بدأ ما رسمه وكتبه على الورق بتنفيذه على الأرض
المفصل من تاريخ العرب قبل الإسلام (8/234)
أشكال حروف المسند
المفصل من تاريخ العرب قبل الإسلام (8/220)
2- الخط العربي
في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم
جاء الإسلام مع التطور السريع والنقلة النوعية لأمة تسود فيها الأميّة، وتنتشر فيها عقدة (الأنا) خلال فترة وصفها المؤرخون بـ (الجاهلية) فهي آخر ما امتلكه العرب من روح الحياة الحضارية والمدنية قبل الإسلام، فكان الإسلام نقطة البدء، وعودة الوعي للأمة التي امتلكت زمام الحضارة منذ آلاف السنين الخالية، فأصبحت تتنفس الصعداء بعد هذا الركام الطويل الذي غيّر كثيراً من معالمها، وطمس صفحات من تاريخها، أصبحت مجهولة لدى أبنائها، وأتعبت الباحثين في التنقيب عن أصالة الجذور، ورحلة الأصالة والتطور لهذا الحرف الذي كان نسياً منسياً، فكانت الآية الكريمة(اقرأ) صلصلة الجرس الذي نبّه النائمين أو حرّك مشاعر وأحاسيس الغافلين عن تراث هذه الأمة الذي عفا عليه الزمن.
صحيح أن القرآن الكريم وصف العرب بـ (الأمة الأُميّة) كما وصف الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم بـ (النبي الأُمي) وهذا الوصف للعرب لا يعني (التعميم) إنما يعني صفة الغالبية، ولا يعني بأميّة النبي صلى الله عليه وسلم صفة الجهالة والتخلف، إنما يعني الاعتزاز والثناء على شخص لا يحسن القراءة ولا الكتابة، ولم يتعلمهما عند من يحسنهما كما هو مألوف لدى الكثيرين من العرب وأهل مكة؛ ومع تلك الأميّة التي وصفه القرآن بها استطاع أن يصنع أمة متعلّمة، عالمة، داعية للعلم وآخذة بزمامه.
ومنذ أن نزلت أول آية وأول سورة من القرآن الكريم وهي سورة العلق ( ). راح هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم يدعو للأخذ بزمام العلم،إقرأوآية ويحث أصحابه على التعلّم، حتى أن الباحث في القرآن الكريم سيجد أن كلمة (علم) وردت مئات المرّات داعية إليه، أو حاثة على الأخذ به، أو مثنية على أهله.
من هنا نستطيع أن نقول إن الخطوة الفنية والجمالية الأولى للخط العربي بدأت مع بزوغ شمس إقرأ باسمالإسلام في غار حراء، حيث نزل جبريل مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ( ).ما لم يعلم
بعد ذلك دخل العرب إلى دنيا التقدم والإبداع، وقدّموا للعالم فنوناً لم تكن تخطر على بال أحد، فقد ألفت المجتمعات القديمة الفن في الصور والتماثيل، لكن العرب بعد الإسلام جعلوا الخط العربي فناً من الفنون، حيث يقف المشاهد مشدوهاً أمام لوحة الخط يتفحّص ويدقّق نظره في الجهد الذي بذله الخطاط، والدقّة التي وصل إليها من خلال جهود مضنية، ومقاييس متقنة للوصول إلى هذه اللوحة الرائعة التي هي (الخط العربي).
قلنا: إن نزول سورة العلق هي بداية الرحلة الرائعة التي انطلق منها الخط العربي، من خلال دعوة الإسلام للعلم، وحث الناس جميعاً ذكوراً وإناثاً للأخذ بزمامه.
أبلغ الأثر في حثّ العربإقرأوكان لآية على التقدم العلمي، والعلم الذي دعا إليه الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم قراءة وكتابة، وتجويد الكتابة في الفن والذوق، وهل أجمل من أن يكتب الكاتب سطراً على عظم أو جريد نخل أو رقائق حجرية ليحفظ لمن يأتي من بعده القيمة العلمية أو الفنية التي يتضمنها ذلك السطر!!.
إنه جهد كبير عاناه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لتدوين القرآن، خلال ظروف قاسية.
لقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الكتابة كما حث على القراءة، وحيث أن عصر الدعوة الأول هو بداية التأسيس، فقد انصبّت جهود الداعية الأول إلى كافة الجوانب لنشر الدعوة بين الناس في موطنها الأول مكة المكرمة، ثم نقلها إلى كافة الجزيرة العربية، ومن ثم تعميمها إلى الأقطار الأخرى.
نستطيع أن نقول: إن بداية إبداع الخط العربي بدأ في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تلك البداية المتواضعة طوّر الخطاطون خطوطهم فيما بعد. وقد ترك لنا هذا العصر عدداً من الرسائل التاريخية القيمة التي أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم للنجاشي في الحبشة، والمقوقس في مصر، وملك البحرين، وملك الروم في دمشق، وهي ذات قيمة تاريخية كبيرة.
3- الخط العربي
في عصر الخلفاء الراشدين
تطور المجتمع العربي الإسلامي في زمن الخلفاء الراشدين تطوراً ملموساً، وتغير تغيراً جذرياً، وأصبحت سيادة الدولة بدلاً من زعيم القبيلة، كما أصبح القانون مكان العرف والعادة، ونتيجة لذلك فقد دوّنت الدواوين، وأصبحت للخط مكانة، مما جعل رابع الخلفاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحث على تحسين الخط وإتقانه، لأن المرحلة التي كانوا فيها تستدعي قوة الدولة الفتية، ونهضة العلم المتمثلة في البحث والتدوين، وإظهار الفن الإسلامي من خلال الخط العربي، مما يجعلنا واثقين أن الخط العربي (انتشر بنمو الإسلام وامتداده، ووصل في زمن قصير إلى جمال زخرفي لم يصل إليه خط آخر في تاريخ الإنسانية)( ).
فلما انتهت الخلافة الراشدة كان الخط قد برز كعلم وفن، له قواعده وأصوله، وأخذ يتحفّز لينطلق من الجزيرة العربية شرقاً وغرباً وشمالاً، مع سرعة الفتوحات الإسلامية في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتوسعها خلال الفترة الأموية.
لقد كانت بدايات النهضة العربية في زمن الخلفاء الراشدين، الذين أرسوا قواعد الدولة الفتية، وبدؤوا في التغيير الملائم، وحيث أن الحياة بدأت تتغير، فقد تغيروا بما يلائم الحداثة والعصر الجديد، فحين انتشر اللحن لاختلاط العرب الأقحاح بالعجم، رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يضع ضوابط للّغة العربية، وكانوا قبل ذلك لا يحتاجون إليها لسلامة نطقهم، ونقاء فطرتهم، فأوعز لأبي الأسود الدؤلي أن يضع تلك القواعد الثابتة في النحو.
إن هذا التطور في الخط العربي فرضته الظروف التي تغير العرب بسببها من حال إلى حال، ولو بقوا على ما كانوا عليه لما احتاجوا إلى وضع الحركات والشكل، وابتكار النُّقط التي ميَّزت بعض الحروف عن بعضها.
4- الخط العربي
في العصر الأموي
أحرز الخط في العصر الأموي تقدماً ملموساً على ما كان عليه في العصرين السالفين، عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين، واستطاع أن يُبرز ولأول مرة الخطّاطَ، ومهنته إلى الوجود؛ رغم أن الحروف كانت خالية من النقط، وقد لمع نجم عدد من الخطاطين يأتي في مقدمتهم الخطاط الشهير (قُطبة المحرر) الذي ابتكر خطاً جديداً يعتبر مزيجاً من الخطين الحجازي والكوفي، وسمي هذا الخط بالخط (الجليل) حيث استعمله قطبة ومن عاصروه أو جاؤوا بعده في الكتابة على أبواب المساجد ومحاريبها.
ولم يكن خط (الجليل) هو كل ابتكار قطبة، ولكنه ابتكر عدة خطوط أخرى، أجاد فيها وأحسن منها (خطّ الطومار وهو أصغر من سابقه، وكذلك اخترع قطبة خط (الثلث) و (الثلثين) وذلك حوالي عام 136هـ)( ). وكان له فضل السبق في ذلك.
وخط الطومار يعني (خط الصحيفة) وجمعه طوامير، وقد سمّاه الأتراك خط (جلي الثلث).
وراح الخطاطون في العصر الأموي –ولأول مرة- يخطُّون خطوطاً جميلة تزين القصور والمساجد والخانات، ويكتبون بهذه الخطوط في سجلاّت الدولة الفتية ودواوينها الحديثة، فنالوا حظوة لدى الأمراء والخلفاء، وجعلوهم في صدارة مجالسهم، واستعملوهم في دواوينهم. وأصبحنا نرى هذه الخطوط الحديثة الجميلة في هذا العصر تزين القباب والمآذن والمساجد والقصور التي حُلِّيت بالفسيفساء والخشب المحفور والمطعم بالفضة والمعادن والزجاج، ليس في العاصمة دمشق فحسب، بل في أبعد المدن القاصية عنها والثغور، وهذا ما نراه واضحاً بعد أكثر من أربعة عشر قرناً في المسجد الأموي في دمشق، وقصر الحير الشرقي، وآثار رصافة هشام، ومحراب المسجد الأقصى وقُبَّته وغيرها.
كان الخطاطون في العصر الأموي يكتبون في سجلاّت الدولة بخط (الثلثين) الذي أطلقوا عليه لكثرة ما كتبوا به السجلاّت اسم خط (السجلاّت) (أما خلفاء بني أمية فكانوا يكتبون بخط الطومار وبالخط الشامي)( ).
وقد نشط عدد من الخطاطين في هذا العصر، لعبوا دوراً هاماً في النهوض بالخط كحركة فنية فتية يأتي في مقدمتهم:
1- خالد بن أبي الهيّاج. وقد كتب عدداً من المصاحف.
2- مالك بن دينار. الذي غلب عليه الزهد والورع فذكروه في عداد الفقهاء والمحدثين وتوفي سنة 131هـ (753م).
3- الرشيد البصري.
4- مهدي الكوفي.
ثم اشتهر خطاطون آخرون لا يقلّون عن سابقيهم شهرة وعدداً انتشروا في الأمصار البعيدة عن مركز الخلافة منهم:
1- (شراشير المصري.
2- أبو محمد الأصفهاني.
3- أبو الفرج.
4- ابن أبي فاطمة.
5- ابن الحضرمي.
6- ابن حسن المليح)( ).
لقد كان لخلفاء بني أمية الدور الأكبر في نهضة الخط العربي، ودفعه إلى الأمام لمجاراة النهضة الشاملة للدولة الإسلامية التي أرسوا أسسها، ليبني اللاّحقون لهم على أُسس المتينة.
5- الخط العربي
في العصر العباسي
ما كاد الخطاطون يتربعون على عرش الخط في دمشق حتى زلزل العباسيون عرش الخلافة الأموية فيها، فاتجهت أنظار الخطاطين والفنانين إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية، ومدينة الخلفاء العظام المنصور والرشيد والمأمون، وطبيعي أن يرحل إليها الخطاطون كما رحل إليها الأدباء والعلماء، ليكونوا أقرب إلى الخليفة والدولة وينالوا أجر إبداعهم من الخلفاء والأمراء والموسرين وغيرهم.
وإذا كان العصر الأموي عصر تأسيس وبناء، فإن العصر العباسي عصر ازدهار ورخاء وبذخ، وفي مثل هذا العصر لابد أن يزدهر كل فن، وينبغ كل من يمتلك أدنى ملكة فنيّة أو علمية.
لقد ذاعت شهرة الخطاط (الضحاك بن عجلان) في خلافة أبي العباس السفاح، والخطاط (إسحاق بن حماد) في خلافتي المنصور والمهدي، حتى (بلغ الخط في عهدهما أحد عشر نوعاً)( ).
وتعددت أقلام الخطاطين وخطوطهم في عهد هذين الخطاطين حتى كانت مضرب المثل في إظهار ملكتهم في الحرف العربي. فلما جاء عصرا الرشيد والمأمون نضجت العلوم والفنون والمعارف، وراح الخطاطون يجوّدون خطوطهم، وينافسون في ذلك، حتى زادت الخطوط على عشرين خطاً، منها المستحدث ومنها المطوّر، فقد طوّر الخطاط إبراهيم الشجري (الثلث والثلثين) أكثر مما ابتدعه الخطاط قطبة المحرر، وقبيل نهاية القرن الثالث اخترع الخطاط يوسف الشجري أخو إبراهيم الشجري خطاً جديداً سمّاه (الخط المدوّر الكبير) حيث أعجب الفضل بن سهل وزير المأمون، فراح يعمِّمه على جميع الكتب السلطانية الصادرة عن دار الخلافة، فأطلقوا عليه (الخط الرياسي) بينما انتشر عند سائر طبقات المجتمع باسم (خط التوقيع) وقد استطاع الخطاط الأحول المحرر البرمكي أن يأخذ عن إبراهيم الشجري، وأن ينجح في اختراع خط جديد اسمه (خط النصف) الذي تفرعت منه خطوط جديدة فيما بعد)( ).
وجاء أبو علي محمد بن مقلة الوزير (272-328 هـ) فضبط الخط العربي، ووضع له المقاييس، ونبغ في خط الثلث حتى بلغ ذروته، وضرب به المثل، وحسده الآخرون.
كما أحكم خط المحقق، وحرر خط الذهب وأتقنه، وأبدع في خط الرقاع وخط الريحان، وميَّز خط المتن، وأنشأ الخط النسخي الحاضر وأدخله في دواوين الخلافة، وقد ترك ابن مقلة في الخط والقلم رسالته الهندسية( ).
وقد زاد ابن مقلة في الأوساط الفنية كخطاط أنه كان وزيراً لثلاثة خلفاء، ولفترات مختلفة، فقد كان وزيراً للمقتدر، وللقاهر بالله وللراضي بالله.
وحينما غضب عليه الخليفة، قطع يده اليمنى لكنه لم يترك الخط، بل كان يربط على يده المقطوعة القلم حينما يشرع في الكتابة، ثم أخذ يكتب بيده اليسرى فأجاد كما كتب بيمناه.
واستمرت رياسة الخط لابن مقلة حتى القرن الخامس، فاشتهر علي بن هلال (المعروف بابن البوًَّاب) والمتوفى سنة (413 هـ) فهذّب طريقة ابن مقلة في الخط، وأنشأ مدرسة للخط، واخترع الخط المعروف بالخط (الريحاني)( ).
ولو أردنا سبر المصاحف التي خُطَّت في العصر العباسي لتبيّن لنا أن معظمها (ترجع إلى القرن التاسع الميلادي، وهي مكتوبة على الرِّق بلونه الطبيعي، أو الملوّن الأزرق والبنفسجي أو الأحمر، وبمداد أسود أو ذهبي، وتظهر الحروف الكوفية فيها غليظة ومستديرة وذات مدَّات قصيرة، وجرَّات طويلة( ).
وبلغت الخطوط في أواخر العصر العباسي أكثر من ثمانين خطاً وهذه الكثرة شاهد على تقدم الفن والزخرفة إلى جانب الخط. وظهر في العصر العباسي خط اسمه (الخط المقرمط) وهو خط ناعم، حتى راح الخطاطون يتفنَّنون في رسم المصاحف رغم صغر الحجم، فهم يزوّقونها، ويعتنون في جميع صفحاتها التي قد تصل إلى أدنى من (6×8 سم) وقد استطاع الخطاط أن يبري قلمه إلى جزء من المليمتر.
ولم يكن الخط العربي وقفاً على الرجال في العصر العباسي، بل نجد المرأة تبرز في هذا المضمار الفني العريق، ففي القرن التاسع الميلادي كانت هناك امرأة برزت في النسخ وجودة الخط، فأعجب بها أحمد بن صالح وزير الخليفة المعتضد، وكتب عن براعتها ما يلي: (كان خطها كجمال شكلها، وحبرها كمؤخر شعرها، وورقها كبشرة وجهها، وقلمه كأنملة من أناملها، وطرازها كفتنة عينيها، وسكِّينها كوميض لمحتها، ومقطَّتها كقلب عاشقها)( ) حقاً لقد بلغ الخط في العصر العباسي ذروته.
عن كتابخانة عمومي حضرت اية الله مرعشي نجفي(ص63)
6- الخط العربي
في العصر الأندلسي
لم تكن شبه الجزيرة إيبريا (إسبانيا) شيئاً مذكوراً قبل الفتح العربي الإسلامي لها، ولم يكن فيها من الفنون ما يشجع الباحث لشدّ الرحال إليها لدراسة ما فيها من فنون وزخارف. رغم كونها بوابة البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى الشرق الحافل بالفنون منذ القديم، ورغم كونها ذراع أوروبا الممتد نحو أفريقيا والوطن العربي وأوروبا نفسها.
وإذا ما قيس واقعها قبل الفتح العربي الإسلامي لها إلى ما آلت إليه بعده، نجد البون واسعاً، والمسافة طويلة. فقد أصبحت تحمل اسم الأندلس، وأصبحت آية في الجمال والذوق الفني، مما شجع الإسبانيين أنفسهم للتخلّي عن لغتهم الأم، والإقبال على اللغة العربية التي أصبحت لغة العلوم ولغة العصر يومذاك، فهم ينهلون منها بشغف زائد، ويحرصون على تعلمها لأنها أصبحت لغة الثقافة العالمية.
وكان اهتمامهم في هذا المضمار واسعاً، فقد أهملوا لغتهم الأصلية وأقبلوا على اللغة العربية بعشق منقطع النظير، فتركوا قراءة الكتب المقدسة بغير لغة الضاد، واعتبروا اللغة اللاتينية، لغة ثانية، واللغة العربية هي اللغة الأم، إذ ترجمت التوراة والإنجيل للعربية، وبها قرئت في الكنائس. لقد كان دخول العرب المسلمين إلى إسبانيا انقلاباً جذرياً في عالم الثقافة والفكر، ومع دخول الإسلام إليها دخلت في عالم الحضارة والمدنيّة.
دخل الحرف العربي إلى كافة مرافق الحياة، فهو في سطور الكتاب، وهو في زخارف اللوحات، وهو في زخارف البيوت والمساجد ومراكز الولاية، وقصور الحكام، والأمراء والسلاطين، وهو في الكنائس والكاتدرائيات، وبه يقرأ المسلم القرآن في صلاته، والنصراني في إنجيله، واليهودي في توراته، وأصبح الأدباء والشعراء والمؤرخون والفنانون من الأديان الثلاثة يكتبون به، وكما دخل الخط الكوفي الأندلسي إلى المساجد فقد دخل الكنائس النصرانية والبيعَ اليهودية عن رغبة وشوق زائدين، لأن غير المسلم وجد فيه وسيلة للثقافة، ودفعاً للفن الرفيع.
وازدهرت الأندلس، ونسي المجتمع الذي عاش فيها متآخياً قروناً طويلة اللغة التي كانت سائدة في الأندلس قبل دخول المسلمين إليها، مما دفع ملوك أوروبا إلى إرسال أولادهم إلى جامعات الأندلس لتعلّم العلوم، والعودة بعد إتقانها إلى بلادهم، مما جعلهم يبذرون في أوروبا بذور العلم لنهضة تتناول كافة وجوه الحياة. ولكن بعد قرون من دخول العرب إلى الأندلس. وهذا ما جعل كبار المفكرين والمؤرخين يفخرون بالتغني بأيام العرب في الأندلس وإطلاق الحسرات على تلك الأيام، فيما نقلته زيغريد هونكه حيث قالت: (على بساط من نبات المسك والعنبر يتثنَّى، وتصفّر الريح خلاله، كانت أقدامنا تسير)( ).
واستمر الحرف العربي في الأندلس ثمانية قرون، كان خلالها مثالاً يحتذى للنهضة العلمية الرائعة التي خلّفها العرب في الأندلس، والتي أصبحت فيما بعد أنموذج المجتمع الإسلامي المثالي لمن أراد أن يعمل بروح الإسلام. وكانت الابتكارات الكثيرة، والاختراعات العجيبة.
وكان من بين تلك الاختراعات آلة الطباعة الحجرية التي كانت مستعملة في القرن التاسع عشر (فقد كان لعبد الرحمن كاتب اعتاد أن ينشئ الرسائل الرسمية في منزله، ثم ينفذها إلى ديوان خاص يصير فيه إظهارها على الورق، وهو نوع من الطباعة فتصدر في نسخ متعددة، توزع على عمال الدولة)( ).
وانتعشت أسواق الكتب في سائر المدن الأندلسية، وأصبح في كل مدينة سوق لبيع الكتب ومزاد لبيع الكتب بالمزاودة (بازار) وأصبح المخطوط العربي تحفة من التحف التي يزيّن بها الأثرياء قصورهم، ومادة أساسية لطلاب العلم الذين جعلوا غرفة في بيوتهم ذات رفوف وخزن كمكتبة خاصة لهم.
إضافة إلى عشرات المكتبات العامة في كل مدينة، يرتادها الفقهاء والعلماء والأدباء والشعراء.
وكانت أجمل هدية يتلقاها الملك فريدريك الثاني من أبيه ثياباً جميلة مطرّزة الأذيال والأردان بخط عربي بديع واضح، يقول فيه الخطاط بعد أن انتهى من نسجه وتطريزه: (بمصنع الملك مقر الشرف والحظ السعيد، مقر الخير والكمال، مقر الجدارة والمجد، في مدينة صقلية عام 528هـ)( ).
وهل اكتفى هذا الخطاط العربي بإتقان الخط العربي على لباس الملك الصقلي؟!
لقد رسم الفنون العربية أيضاً في بيئة لا تعرف أمثالها، فقد أملى عليه ملك صقلية روجر الثاني ابن الكونت روجر الأول الذي طرد العرب من صقلية بعد أن بقي العرب في هذه الجزيرة قرابة قرنين ونصف قرن، أمر الملك الخطاط العربي أن يرسم له على ثوبه صورة لأسدين يضربان جملين فيصرعاهما وذلك يرمز إلى أن الملك الصقلي الذي رمز له بصورة الأسد انتصر على الحاكم العربي المسلم الذي رمز له بصورة جمل( ).
أصبح الكتاب العربي في كل بيت، وأصبح المخطوط العربي في كل مكتبة، ولا يمكن أن يخلو شارع من شوارع غرناطة وقرطبة وإشبيلية وغيرها من المدن الأندلسية من مكتبة عامة تقدم كافة الخدمات لمرتاديها.
وظل الملوك الذين حكموا الجزيرة بعد خروج العرب وانتهاء الدور الإسلامي فيها يسكّون النقود الإسبانية بحروف عربية، ويزينون ملابسهم بالخطوط العربية المذهبة والمطرّزة، مع أن الواقع يفرض عليهم أن ينهوا كل ما يشير إلى الوجود العربي والإسلامي في الجزيرة بعد انتصاراتهم على ملوك الطوائف وغياب شمس الإسلام، لكن الواقع المعاش يومذاك والحضارة التي تركها العرب لم تكن بالأمر الهيّن الذي يتنكّر له الملوك والعامة من غير المسلمين، فهم قد طردوا عنصراً عربياً، وطردوا ديناً يختلف عن طقوس دينهم، ولكنهم احتضنوا حضارة راحوا يعتزون بها ويفخرون، ويورثون هذه الحضارة لأولادهم وأحفادهم إلى الآن، فهم يعتبرونها أماكن أثرية إسبانية، كما يعتز العرب الآن في الآثار الرومانية التي خلفها الرومان يوم كانوا يسيطرون على بلاد الشام قبل الفتح الإسلامي.
إن الخط العربي في الأندلس لا يزال رغم مرور أكثر من ألف عام يحكي قصة الفن والإبداع العربي والإسلامي الذي توصّل إليه الخطاط والفنان المسلم في الأندلس حين وجد البيئة المناسبة للإبداع والنبوغ، وحين كان التقدم والعطاء المستمر ديدن كل مبدع، مما يجعلنا حين نقف على ما خلّفه العرب في الأندلس من آثار رائعة نقول: من هنا مرّت الحضارة العربية الإسلامية، ومن هناك عبرت الحضارة الإسلامية إلى أوربا. وفي هذه الأرض المعطاء انتعشت البذور الغضة التي زرعها المفكرون العرب قبل دخولهم إليها وبعده.
***
7- الخط العربي
في العصر الفاطمي
اعتنى الفاطميون في مصر بالخط العربي عناية كبيرة، قد كتبوه على المآذن والقباب والأروقة وقصور الخلفاء، وأضرحة العلماء، وزيّنوا به واجهات الحمامات والمكتبات العامة ومضامير الخيل وواجهات السجون، والأماكن العامة، وظهر في مصر الخط الفاطمي، والخط الكوفي الفاطمي، وامتاز كل منهما بهوية خاصة، اختلفا عن غيرهما من الخطوط الأخرى.
لاشك أن مصر ازدهرت خلال العصر الفاطمي ثقافياً، وانتعش الكتاب صناعة وزخرفة وتجليداً وتذهيباً وتسويقاً. بل إن المبدعين استطاعوا خلال العصر الفاطمي أن يخترعوا قلم الحبر السائل الذي امتاز بخزّان صغير للحبر وله ريشة، وهو لا يختلف عن أقلام الحبر السائل الحديثة، وقدّم مخترعه هذا القلم للخليفة الفاطمي هدية، لكنه لم يعممه ولم يصنع منه أقلاماً أخرى ويبيعها لسائر الناس، لأن المجتمع المصري كان يحفل بأنواع مختلفة من أقلام الخط الدقيقة الصنع؛ التي تبلغ ريشتها جزء من عشرة من السنتيمتر الواحد، والتي خطّوا بها مصاحف صغيرة جداً توضع في الجيب، أو ربما تعلق بالحلق.
استمرت فترة الخلافة الفاطمية أكثر من مائتي سنة (359-566هـ) وكان عصر المعز لدين الله الفاطمي عصراً ذهبياً لهذه الفترة، وهو الذي كتب بقلم الحبر السائل.
ولا تزال قصور الخلفاء والأمراء الفاطميين تحكي قصة الفن الذي توصل له الخطاط والنقاش والنحّات في ذلك العصر، بل إن المآذن التي أقيمت خلال تلك الفترة تعتبر اليوم من روائع البناء الإسلامي. (وكان منطلق الخط في مصر "ديوان الإنشاء" وكان لا يرأس هذا الديوان إلاّ أجلّ كتاب البلاغة، ويلقب بـ "كاتب الدست الشريف")( ).
وكان المحمل الذي يتقدم قوافل الحجيج المصريين- والفاطميون من أوائل من ابتدع المحمل الشريف- حيث كان يزدان بالخطوط الذهبية الرائعة، والزخارف الإسلامية الجميلة، بحيث أن من يقود ذلك الجمل يزداد شرفاً، ويحمل لقباً، ويورث ذلك لأحفاده من بعده.
وقبيل انهيار الدولة الفاطمية واستلام الناصر صلاح الدين مقاليد الأمور في مصر، تبعثرت المكتبات الكبرى فيها ونتيجة للتعصب المذهبي.. فقد تحدث المقريزي في خططه عن المكتبات الفاطمية الكبرى التي ذهبت أدراج الرياح بعد استيلاء صلاح الدين على السلطة في القاهرة، وأن الكتب شكّلت أكواماً خارج المدينة، وأن الغلافات الثمينة استعملها الجنود الأتراك أحذية لهم( ).
فلا غرابة أن نجد الذين استولوا على الحكم بعدهم كالأيوبيين الذين حكموا مصر والشام واليمن من عام 1169م إلى عام 1260م والمماليك على اختلاف جنسياتهم الذين حكموا مصر وبعض الشام من عام 1250 إلى عام 1517م لا ينسون فضائل الدولة الفاطمية التي كانت راعية للعلم والعلماء ومشجعة أهل الإبداع، ويتخذون من مبدعي وفناني الدولة الفاطمية أساتذة لهم.
8- الخط العربي
في العصر العثماني
ورث العثمانيون الخط عن مدرسة تبريز التي ازدهرت ليس في الخط فحسب، وإنما في صناعة الكتاب أيضاً، بل ونشطت فيما يتعلق بالكتاب من صناعة الورق والكرتون والخط والزخرفة والتجليد والرسوم والتذهيب وغير ذلك. وكان لأساتذتهم الإيرانيين الفضل في هذا التفوق الذي أحرزوه، فصاروا لهم أنداداً، وصار الأتراك يمثلون مدرسة مستقلة ذات شهرة متميزة في خط الثلث، ولكبار الخطاطين الأتراك مصاحف كثيرة محفوظة إلى الآن في المتاحف التركية، وخاصة في متحف الأوقاف في استانبول، حيث أضافوا إلى هذا الخط الجميل زخرفة وتجليداً أنيقين.
وراح خطاطو الأتراك يبدعون في خط المصاحف الصغيرة التي توضع في الجيب، وحيث أن الدولة العثمانية دولة خلافة إسلامية سنيّة فإنها شجعت على انتشار الخط العربي بأنواعه، بحيث (انتحل الترك أنفسهم الخط العربي، ولا تجد في تركيا إنساناً على شيء من التعليم لا يستطيع أن يفهم لغة القرآن بسهولة)( ).
ونال الخطاطون احترام الخلفاء، فنالوا منهم الحظوة، وأغدقوا عليهم العطايا، وجعلوهم من المقربين منهم، وأسندوا لهم العمل في الدواوين التابعة للدولة، وبرواتب عالية. لكنهم رغم هذا الاحترام والإكرام لم يبلغوا ما أوصلهم إليه العرب من مكانة حين عيّنوهم في مناصب وزاوية مراراً كما حدث للخطاط ابن مقلة مثلاً.
لقد امتلأت مساجد الخلافة العثمانية بالخطوط الرائعة، والزخارف الجميلة لكبار الخطاطين الأتراك، وغير الأتراك الذين استقطبتهم دار الخلافة العثمانية للعمل في عاصمة الدولة برواتب عالية.
وفي الفترة المتأخرة لهذه الخلافة برز خطاطون طبّقت شهرتهم العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، وخلدوا لنا لوحاتهم الرائعة.
أولهم : الخطاط الشيخ حمد الله الأماسي الذي يعتبر إمام الخطاطين الأتراك.
الثاني : الخطاط الحافظ عثمان الملقب جلال الدين الذي كتب خمسة وعشرين مصحفاً بيده. وقد طبع مصحفه الشريف في سائر البلاد العربية والإسلامية، وخاصة في دمشق فقد تبنّته مطبعتان عريقتان هما مطبعة الملاح والمطبعة الهاشمية، ولأكثر من نصف قرن طبعتا عشرات الطبعات بعضها مهمّش بتفسير الجلالين، أو أفردوا أجزاءه في طبعات مستقله.
الثالث : الخطاط رسا الذي خط لوحات في المساجد التركية، ومساجد بلاد الشام وغيرها لا تزال باقية لوحاتها المعدنية أو المرقومة على الجدران الجصية أو المنحوتة على الرخام.
إن العصر العثماني هو عصر نضوج الخط العربي في العصور المتأخرة، ونستطيع أن نسميه العصر الذهبي للخط العربي وذلك لأسباب كثيرة منها:
1- أن الدولة العثمانية دولة واسعة المساحة، جمعت الجنسيات والألسن والألوان البشرية المختلفة تحت مظلة الإسلام.
2- أن فترة حكمها طالت حتى بلغت أربعة قرون.
3- كانت تعتبر التصوير حراماً، لذلك شجّعت الخطوط والزخارف والنقوش لسد فراغ تحريم التصوير.
4- كان الخلفاء يقربون منهم العلماء والأدباء والمبدعين، ويستقطبونهم إلى عاصمة خلافتهم، ويغدقون عليهم المنح والعطايا المختلفة، بل نجد بعض الخلفاء قد تتلمذ على أيدي الخطاطين، وأخذوا عنهم مبادئ الخط العربي.
5- كان (خطاط السلطان الخاص يتقاضى أربع مائة ليرة عثمانية ذهباً في الشهر)( ).
6- بلغ الشعب التركي من الترف ما جعل ذوي الإبداع يعملون في قصورهم النقوش والزخارف والرسوم بمبالغ عالية.
7- استطاع الخطاطون الأتراك في ظل تكريم الدولة لهم، وإغداقها العطايا عليهم، أن يبتكروا خطوطاً جديدة كالرقعة والطغراء والديواني وغيرها.
فلا غرابة أن نجد كبار الخطاطين الأتراك يتظاهرون في شوارع العاصمة استانبول استنكاراً لاستقدام أول مطبعة للدولة العثمانية وهم يحملون محابرهم وقصباتهم في نعش، ويطوفون بها شوارع المدينة( ) لقناعتهم أن الآلة الطابعة ستقضي على روح الإبداع والجهد الفردي الذي يزاوله الخطاطون.
وبرزت في ساحة الخط العربي في تركيا أسماء خطاطين احتلوا الصدارة إلى الآن منهم: سامي (1330هـ) وعبد الله الزهدي (1296هـ) وإبراهيم علاء الدين (1305هـ) ومصطفى نظيف (1331هـ) وحامد الآمدي (1980م) وحقي (1365هـ) ومحمد أمين (1372هـ) ومصطفى أرقم، وإسماعيل زهدي شقيق الخطاط راقم ومصطفى عزت، ومحمد شوقي، وأحمد كامل، ومحمود يازر، وعبد العزيز الرفاعي وغيرهم.
إن رحلة الخطاطين الأتراك مع الخط العربي رحلة طويلة، أظهروا من خلالها مقدرتهم الفنية في رفد الخطوط العربية القديمة بخطوط عربية من ابتكارهم حملت أسماءهم. وسيبقى تاريخ الخط العربي يفخر بما قدّمه الأتراك من خدمات جلّى لهذا الفن البديع.
9- الخط العربي في إيران
استطاع الفنانون الإيرانيون أن يبدعوا في الفن التصويري لمضامين المخطوطات الفارسية والعربية، كما نجحوا في تجويد الخط وتحسينه وتطويره، فقد امتاز الخطاط الإيراني بالجودة والإتقان، وكان في أغلب أحيانه مبدعاً في لوحاته، مبتكراً في إنتاجه، عبقرياً في بحثه العميق.
ابتكر الخطاطون الإيرانيون الخط الفارسي في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي). ثم ابتكروا خط (النستعليق) من الخط الفارسي والنسخ والتعليق، وكان هذا الابتكار بجهود الخطاط الكبير عماد الدين الشيرازي الحسني، إذ وضع له قاعدة اشتهرت باسمه فيما بعد فسمّيت (قاعدة عماد).
كما حوّروا الخط الكوفي (فأصبحت المدّات فيه أكثر من الجرّات)( ).
واشتهرت مدينة مشهد بخط النستعليق حتى كادت أن تسبق جميع المدن الإيرانية، ووقفت مشدوهاً أمام تلك الخطوط في هذه المدينة وخاصة في جامع الإمام الرضا ذي القباب الذهبية في ربيع عام (1416هـ 1996م) خلال زيارتي الأولى لإيران.
وقد رأيت إبداعات أولئك الخطاطين الإيرانيين في مشهد تفوق ما قدّم غيرهم، فالخطوط التي نقشت على القباب والمآذن تحكي قصة الإتقان والجودة. وقد أجاد الخطاطون في نقش الخطوط وزخرفتها على قطع السيراميك في شوارع المدينة على كثرتها، بحيث يرى السائر فيها أنه في متحف مفتوح للخط العربي.
أما مدينة أصفهان التي يقول أهلها أنها (نصف جهان) أي نصف العالم فهي عاصمة الدولة الصفوية التي خلفت لنا خطوطاً ولوحات وزخارف يعتز بها كل مسلم، ويحق لهذه المدينة أن تتربّع على عرش الفن الإسلامي، برسومه، وخطوطه، وزخارفه. وذلك من خلال ما خلّفوه لنا من أوابد أصبحت بالنسبة لنا متاحف مفتوحة للمشاهدين والزوار.
من هذه الأماكن الأثرية التي احتوت خطوطاً رائعة:
1-الجامع الكبير في أصفهان (جامع الإمام).
2-جامع لطف الله.
3-الأربعون عموداً.
4-الجسور الكثيرة المنتشرة على نهرها الكبير (زينده رود) مثل جسر خاجو. وشاهدت براعة الخطاط الإيراني الفنية قبل أن يكون خطاطاً في القباب والمآذن، والإيوانات والجسور، والحوزات، والمدارس، مما يجعل الباحث والزائر لهذه المدينة التاريخية يشهد لها بالفن والإبداع.
وقد اهتم شاهات فارس وأمراؤها بالخط (فقد أنشأ الوزير المغولي رشيد الدين ضاحية سماها (ربع رشيد) كذلك أصبحت هراة في عهد الصفويين عاصمة الخط والتصوير، وكان بهزاد معلم التصوير، وموجه الخطاطين)( ).
ولم تقتصر أمور الخط والإبداع على الخطاطين الذين اعتمدوا الخط فناً ومهنة، بل تعدّتهم إلى الأمراء والحكام وذوي السلطان، فقد كانوا يجدون في النسخ والخط شرفاً وبركة ومجداً. فهم يعتزون بنسخ القرآن الكريم مسترشدين بتوجيهات كبار الخطاطين مثل (عضد الدولة البويهي، والشاه طهماسب، بل كان الأمراء منهم-الفرس- يتسابقون لمساعدة الخطاطين بأن يمسكوا لهم بالمحبرة. أو يقدموا معونة بوضع الوسائد بمكانها، أو بإمساك الشمعدان)( ). وكأنهم بهذا الاحترام الزائد يقلدون أبناء ملوك العرب كالأمين والمأمون اللذين كانا يتسابقان لتقديم حذاء معلمهم ومؤدبهم الكسائي.
حقاً لقد أجاد الخطاط الإيراني أكثر مما نال من حظوة الشاهات والأمراء، وذلك لأن طبعه الفني مغروس فيه ومتوارث، فهو لا يتهالك من أجل أن يتقرّب بخطوطه وفنه من الأمراء، وما حدث من ذلك فأمر عارض، لا يقصد به صاحبه أكثر من إيصال فنه وإبداعه إلى كبار المسؤولين في الدولة.
خط التعـليق
10- الخط العربي في أوربا
دخل الخط العربي إلى أوربا من عدة محاور، وكان في كل مرة يحمل طابعاً يختلف عن سابقه، لأن ظروف دخول الخط تختلف في الزمان والمكان.
1-عن طريق آسيا الوسطى وبعد دخول العثمانيين مدينة القسطنطينية.
2-عن طريق الحملات الصليبية المتكررة على مشرق العالم العربي ومغربه، براً وبحراً ومن دول مختلفة في اللسان والمذهب والقومية من أوربا.
3-عن طريق الأندلس بعد الفتح العربي الإسلامي لها وانتشار الجامعات الكبرى فيها ودخول أبناء ملوك أوروبا فيها، ونقل الحضارة الإسلامية إلى أوروبا عن طريقها.
4-عن طريق صقلية حيث دخل العرب المسلمون إلى إيطاليا وحاصروا روما، وساحوا في كثير من مدن الدولة الرومانية.
وبذلك أصبحت أوروبا مدينة للعرب الذين أوصلوا لها الثقافة والمعرفة والعلوم إلى جانب الخط، واللوحة الفنية، والنقطة الحسابية(الصفر).
وأكثر ما نجد ذلك في أبواب ونوافذ الكنائس والكاتدرائيات، وقصور الملوك والأمراء والنبلاء للزينة، وذلك في صقلية وإيطاليا وألمانيا وفرنسا، ودخلت كثير من هذه الخطوط متاحف روما وباريس وفيّنا وأمستردام، وهذا ما دعا الكاتب الفرنسي مارسيه لأن يعترف بفضل العرب في الخط والفنون على أوروبا حيث يقول: (لقد كانت الحضارة العربية الإسلامية شديدة التغلغل في عالمنا، حتى أن العناصر الإسلامية طغت منذ نهاية القرن الحادي عشر في واجهات الكنائس الرومية، ثم رأيناها فيما بعد تختلط في الكنائس القوطية مع العناصر الواردة من فرنسا)( ).
وقد امتدت فتوحات العثمانيين إلى وسط أوروبا، بل تعمقوا فيها غرباً فوصلوا سويسرا، وأشادوا القلاع والحصون، وتركوا آثاراً وبصمات عربية اللسان والحرف، لكنها عثمانية تركية المنشأ، ومن يزور متاحف أوروبا يقف مبهوتاً في كل متحف لتلك الخطوط الرائعة والتحف الشرقية المزخرفة التي نقلها الصليبيون أو لصوص الآثار أو تجارها إلى متاحف تلك المدن الكبيرة، وهي في أًصلها من دمشق وبغداد والقاهرة وإيران.
وقد شهدت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة بعظمة الخط والفن العربي في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب، الذي ينطق بكل حرف فيه بمقدرة الإنسان العربي والمسلم على استمرارية العطاء الفني من خلال رسم الحرف العربي واللوحة الزخرفية سواء في مسجد أو متحف أو حمّام أو قبة ضريح، أو ثياب ملك.
الباب الثاني :
أنواع الخط العربي
1-الخط الكوفي
2-خط الرقعة
3-خط النسخ
4-خط الثلث
5-الخط الفارسي
6-خط الإجازة
7-خط الديواني
8-خط الطغراء
9-خط التاج
10-الخط المغربي
سار الخط العربي في رحلة حياته مسيرة طويلة، فقد نشأ نشأة عادية وبسيطة، ثم تطور مع تطور الحياة. وإذا ما حاولنا دراسة هذه الرحلة تبين لنا أن مسيرته قبل الإسلام كانت بطيئة جداً بينما نجده يقفز قفزات سريعة بعد الإسلام ويصل إلى درجة الإبداع، حيث تناوله الخطاطون بالتحسين والتزويق، وأضفوا عليه من إبداعهم جماليات لم تخطر على بال فنان سابق، لِما صبُّوا في الحرف العربي من قواعد ثابتة، وأصول يجب على الخطاط أن يلتزم بها ليكون خطاطاً ناجحاً.
وقد استطاع الخطاط العربي أن يبتكر خطوطاً جديدة من خطوط أخرى فهذا ابن مقلة يبتكر خط الثلث، لقد اشتقه من خطّي الجليل والطومار، وسمّاه في أول الأمر (خط البديع)( ) وقد استطاع أن يحسّنه ويجوّده حتى فاق فيه غيره، واشتهر بنيل قصب السبق فيه إلى عصرنا هذا، ولم يتجرّأ خطّاط أن يتقدمه، فاعتبره الخطاطون فيما بعد مهندساً للحروف العربية، لأنه قدّر مقاييسها وأبعادها بالنقط، فلكل حرف أبعاده الثابتة، ولكل بُعد نقطه المحدّدة التي لا يجوز تجاوزها.
ثم جاء ابن البواب فزاده جودة وجمالاً، وأسبغ عليه من ذوقه.
واستطاع الخطاط التركي ممتاز بك أن يبتكر خط الرقعة من الخط (الديواني) وخط (سياقت) حيث كان خط الرقعة خليطاً بينهما.
وقام الخطاط مير علي سلطان بتطوير وتحسين خط الإجازة.
وبرع الخطاط عثمان في الخط الديواني وفاق مبتكريه أيام السلطان محمد الفاتح.
وهكذا استمرت رحلة الخط جودة وتطويراً، وابتكاراً حتى كان الخط الحديث الذي ظهرت له الآن نماذج كثيرة خالية من القواعد والضوابط.
وقد سميت الخطوط العربية بأسماء المدن أو الأشخاص أو الأقلام التي كتبت بها، وقد تداخلت هذه الخطوط في بعضها، واشتق بعضها من الآخر، وتعددت رسوم الخط الواحد، فكانت لكثرتها تشكل فناً من الفنون التي أبدعها الخطاطون العظام كالخط الكوفي مثلاً، وقد تطورت هذه الخطوط نتيجة إبداع المهتمين بها والمتخصّصين بكل خط منها، فبلغت ذروتها لدى المتأخرين، وإن كان الأوائل قد نالوا قصب السبق فيها على جدران بغداد ودمشق والقاهرة والأندلس.
1- الخط الكوفي
يعتبر الخط الكوفي من أقدم الخطوط، وهو مشتق من الخط النبطي (نسبة للأنباط) الذي كان متداولاً في شمال الجزيرة العربية وجبال حوران، وقد اشتقه أهل الحيرة والأنبار عن أهل العراق، وسمي فيما بعد بـ(الخط الكوفي) حيث انتشر منها إلى سائر أنحاء الوطن العربي، ولأن الكوفة قد تبنّته ورعته في البدء. وقد كتبت به المصاحف خمسة قرون حتى القرن الخامس الهجري، حين نافسته الخطوط الأخرى كالثلث والنسخ وغيرهما.
(وأقدم الأمثلة المعروفة من هذا الخط من القرآن نسخة سجلت عليه وقفية مؤرخة في سنة (168هـ= 784-785م) وهي محفوظة في دار الكتب المصرية بالقاهرة)( ).
كان الخطاطون والوراقون يزخرفون المصاحف وعناوين السور زخرفة جميلة، وبعضهم يزخرفون بداية المصحف ونهايته أيضاً بزخارف جد بديعة، من مربعات ومستطيلات، وزخارف متعاشقة، وصور مقرنصات نازله وطالعة. وأشجار مروحية أو نخيل، مما يزيد جمال الخط جمالاً أخّاذاً.
تمتاز حروف الخط الكوفي بالاستقامة، وتكتب غالباً باستعمال المسطرة طولاً وعرضاً، وقد اشتهر هذا الخط في العصر العباسي حتى لا نكاد نجد مئذنة أو مسجداً أو مدرسة أو خاناً يخلو من زخارف هذا الخط. (ويعتمد هذا الخط على قواعد هندسية تخفف من جمودها زخرفة متصلة أو منفصلة تشكّل خلفية الكتابة)( ).
وقد تطور هذا الخط تطوراً مذهلاً، حتى زادت أنواعه على سبعين نوعاً، كلها ترسم بالقلم العادي على المسطرة، ولم يعد وقفاً على الخطاطين، فقد برع فيه فنّانون ونقاشون ورسامون، وغير مهتمين بالخط، بل برع فيه كثير من هواة الرسم والذوق، وابتكروا خطوطاً كثيرة لها منها (الكوفي البسيط، والكوفي المسطّر- ويسمى: المربع، أو الهندسي التربيعي- والخط الكوفي المسطّر المتأثر بالرسم، والخط الكوفي المسطّر المتأثر بالفلسفة، والخط الكوفي المتشابك، والكوفي المتلاصق، والكوفي المورّق. الذي قال عنه الخطاط كامل البابا: (لقد نفخ العربي في الحرف الحياة، وحوّله من جماد إلى نبات، تنبثق عنه أغصان وأوراق وأزهار)( ). والخط الكوفي المزخرف، والمزيّن، والمظفور، والكوفي الأندلسي والخط الكوفي الفاطمي، والكوفي الأيوبي، والكوفي المملوكي. (وكان كتّاب الوحي يكتبون به آيات القرآن الكريم على سعف النخيل والجلود ورقائق العظام، وكان الناس في العصر الجاهلي والراشدي يكتبونه بشكل بدائي وبسيط، خالياً من النقط والهمزات والتشكيل)( ).
ويعتبر الخط الكوفي أفضل أنواع الخطوط العربية للفن والزخرفة، وهذا ما دعا غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) لأن يقول: (إن للخط العربي شأن كبير في الزخرفة، ولا غرو فهو ذو انسجام عجيب مع النقوش العربية، ولم يستعمل في الزخرفة حتى القرن التاسع الميلادي غير الخط الكوفي ومشتقاته كالقرمطي والكوفي القائم الزوايا)( ).
ولا يعتبر من يتقن هذا الخط خطاطاً بارعاً، بل يعتبرونه فناناً، لأنه لم يعد وقفاً على الخطاطين، بل برع فيه النحاتون على الرخام أيضاً، والمزخرفون على جدران الجص وغيره.
وقد تراجع الخط الكوفي من واجهات الأبنية، وكتابات الخطاطين منذ القرن السادس الهجري، إذ راح الخط النسخي يحلّ محله شيئاً فشيئاً (ثم حل محل الخط الكوفي القديم بالمنطقة المغربية الإسلامية خط جديد مازال يستعمل في المغرب وطرابلس وما بينهما، وعرف باسم الخط العربي)( ).
وراح هذا الخط يملأ عناوين الكتب وخطوطها، ورؤوس الفصول والأبواب والحواشي في سائر الكتب التي تنسخ من طرابلس إلى أقصى المغرب، ومن ثم إلى الأندلس، حتى أننا نجد هذا الخط في زخارف ونقوش على الحجر والجبس في الجدران والقصور والحصون والقلاع والمساجد، وعلى أبواب ونوافذ المنشآت الضخمة، وفي بيوت وقصور الأمراء والأثرياء.
وأشهر من كان يكتبه من الخطاطين المعاصرين المرحوم الأستاذ يوسف أحمد بمصر، وله به تخصص وإتقان)( ).
يستعمل هذا الخط بأنواعه المختلفة والكثيرة للزخارف والزينة، وأحياناً يغوص الخطاطون فيه في التعقيد والإبهام، حتى ليصعب على القارئ العادي أن يقرأ كلمة منه. وكتبت به المصاحف على الرق حتى القرن التاسع الميلادي حيث ظهرت الخطوط الكوفية فيها غليظة ومستديرة، وذات مدّات قصيرة. وقد (استخدم الخط الكوفي في مصر والشام والعراق خلال القرن التاسع وشطراً من القرن العاشر الميلادي)( ). واستمر استعماله حتى القرن الحادي عشر حيث قلّ استعماله في كتابة القرآن الكريم، وأصبح خط النسخ بديلاً له، حيث بقيت البسملة في المصاحف بهذا الخط.
2- خط الرقعة
هو خط الناس الاعتيادي في كتاباتهم اليومية، وهو أصل الخطوط العربية وأسهلها، يمتاز بجماله واستقامته، وسهولة قراءته وكتابته، وبعده عن التعقيد، ويعتمد على النقطة، فهي تكتب أو ترسم بالقلم بشكل معروف.
يقول البعض: إن تسميته نسبة إلى كتابته على الرقاع القديمة، لكن هذه التسمية لم تلاق استحساناً لدى الباحثين الذين قالوا: (إن الآراء غير متفقة على بدء نشوء خط الرقعة وتسميته، التي لا علاقة لها بخط الرقاع القديم، وأنه قلم قصير الحروف، يحتمل أن يكون قد اشتق من الخط الثلثي والنسخي وما بينهما، وأن أنواعه كثيرة)( ).
وكان فضل ابتكاره للأتراك قديم، إذ ابتكروه حوالي عام 850هـ، ليكون خط المعاملات الرسمية في جميع دوائر الدولة، لامتياز حروفه بالقصر وسرعة كتابتها.
يستعمل خط الرقعة في كتابة عناوين الكتب والصحف اليومية والمجلات، واللافتات والدعاية. ومن ميزة هذا الخط أن الخطاطين حافظوا عليه، فلم يشتقوا منه خطوطاً أخرى، أو يطوِّروه إلى خطوط أخرى، تختلف عنه في القاعدة، كما هو الحال في الخط الفارسي والديواني والكوفي والثلث وغيرها.
ويعتبر خط الرقعة من الخطوط المتأخرة من حيث وضع قواعده فقد (وضع أصوله الخطاط التركي الشهير ممتاز بك المستشار في عهد السلطان عبد المجيد خان حوالي سنة 1280 هجرية، وقد ابتكره من الخط (الديواني) وخط (سياقت)
حيث كان خليطاً بينهما قبل ذلك( ).
إنَّ خط الرقعة هو الخط الذي يكتب به الناس في البلاد العربية عدا بلدان المغرب العربي عموماً، وإن كان بعض العراقيين يكتبون بالثلث والنسخ.
3 - خط النسخ
يعتبر خط النسخ من أقرب الخطوط إلى خط الثلث، بل نستطيع أن نقول: (إنه من فروع قلم الثلث، ولكنه أكثر قاعدية وأقل صعوبة، وهو لنسخ القرآن الكريم، وأصبح خط أحرف الطباعة)( ).
وهو خط جميل، نسخت به الكتب الكثيرة من مخطوطاتنا العربية، ويحتمل التشكيل، ولكن أقلّ مما امتاز به خط الثلث. وقد امتاز هذا الخط في خطوط القرآن الكريم، إذ نجد أكثر المصاحف بهذا الخط الواضح في حروفه وقراءته، كما أن الحكم والأمثال واللوحات في المساجد والمتاحف كتبت به..
وخط النسخ الذي يكتبه الخطاطون اليوم؛ هو خط القدماء من العباسيين الذين ابتكروا وتفننوا فيه، فقد (حسَّنه ابن مقلة، وجودّه الأتابكيون وتفنن في تنميقه الأتراك، حتى وصل إلينا بحلَّته القشيبة، بالغاً حدّ الجمال والروعة).( )
وتستعمل الصحف والمجلاَّت هذا الخط في مطبوعاتها، فهو خط الكتب المطبوعة اليوم في جميع البلاد العربية. وقد طوّر المحدثون خط النسخ للمطابع والآلات الكاتبة، ولأجهزة التنضيد الضوئي في الكمبيوتر، وسمّوه (الخط الصحفي) لكتابة الصحف اليومية به.
وأشهر خطاط معاصر أبدع فيه هو هاشم محمد البغدادي، فقد ظهرت براعة قصبته في كتابه (قواعد الخط العربي) الذي يعتبر الكتاب الأول في مكتبات الخطاطين الكبار والمبتدئين.
4- خط الثلث
يعتبر خط الثلث من أجمل الخطوط العربية، وأصعبها كتابة، كما أنه أصل الخطوط العربية، والميزان الذي يوزن به إبداع الخطاط. ولا يعتبر الخطاط فناناً مالم يتقن خط الثلث، فمن أتقنه غيره بسهولة ويسر، ومن لم يتقنه لا يُعدّ بغيره خطاطاً مهما أجاد.
وقد يتساهل الخطاطون والنقاد في قواعد كتابة أي نوع من الخطوط، إلاّ أنهم أكثر محاسبة، وأشد تركيزاً على الالتزام في القاعدة في هذا الخط، لأنه الأكثر صعوبة من حيث القاعدة والضبط.
وقد تطور خط الثلث عبر التاريخ عما كان عليه في الأصل الأموي (الطومار) فابتكر منه (خط المحقق) و(الخط الريحاني) خطاط بغداد ابن البوّاب. ثم خط (التوقيع) ثم خط (الرقاع) ثم خط (الثلثين) وهو خط أصغر من خط الطومار. وخط (المسلسل) الذي ابتدعه الخطاط (الأحول المحرر) ثم خط الثلث العادي، وخط (الثلث الجلي) وخط (الثلثي المحبوك) والخط (الثلثي المتأثر بالرسم)، والخط (الثلثي الهندسي)، والخط (الثلثي المتناظر)( ).
استعمل الخطاطون خط الثلث في تزيين المساجد، والمحاريب، والقباب، وبدايات المصاحف. وخطّ بعضهم المصحف بهذا الخط الجميل. واستعمله الأدباء والعلماء في خط عناوين الكتب، وأسماء الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية والشهرية، وبطاقات الأفراح والتعزية، وذلك لجماله وحسنه، ولاحتماله الحركات الكثيرة في التشكيل سواء كان بقلم رقيق أو جليل، حيث تزيده في الجمال زخرفة ورونقاً.
يعتبر ابن مقلة المتوفى سنة (328هـ)، واضع قواعد هذا الخط من نقط ومقاييس وأبعاد، وله فضل السبق عن غيره، لأن كل من جاء بعده أصبح عيالاً عليه.
وجاء بعده ابن البواب علي بن هلال البغدادي المتوفى سنة (413هـ)، فأرسى قواعد هذا الخط وهذّبه، وأجاد في تراكيبه، ولكنه لم يتدخل في القواعد التي ذكرها ابن مقلة من قبله فبقيت ثابتة إلى اليوم.( )
وأشهر الخطاطين المعاصرين الذين أبدعوا في خط الثلث هو المرحوم هاشم البغدادي رحمه الله.
ورغم أن الخطاطين الإيرانيين قد سبقوا غيرهم في الخط الفارسي (النستعليق) إلا أنني رأيت عدداً من اللوحات الرائعة بهذا الخط في طهران، استطاع الخطاط الإيراني أن يكسب فيها مقدرته الفنية، ويكسر الطوق الذي يقول: (إن إبداعه اقتصر على الخط الفارسي)..
الخط العربي (ص60).
5 - الخط الفارسي
ظهر الخط الفارسي في بلاد فارس في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي. ويسمى (خط التعليق) وهو خط جميل تمتاز حروفه بالدقة والامتداد. كما يمتاز بسهولته ووضوحه وانعدام التعقيد فيه. ولا يتحمّل التشكيل، رغم اختلافه مع خط الرقعة.
وكان الإيرانيون قبل الإسلام يكتبون بالخط(البهلوي) فلما جاء الإسلام وآمنوا به، انقلبوا على هذا الخط فأهملوه، وكتبوا بالخط العربي، وقد (اشتق الإيرانيون خط التعليق من خط كان يكتب به القرآن آنئذ، ويسمى (خط القيراموز) ويقال : إن قواعده الأولى قد استنبطت من (خط التحرير) و(خط الرقاع) و(خط الثلث).( )
وقد طوّر الإيرانيون هذا الخط، فاقتبسوا له من جماليات خط النسخ ما جعله سلس القياد، جميل المنظر، لم يسبقهم إلى رسم حروفه أحد، وقد (وضع أصوله وأبعاده الخطاط البارع الشهير مير علي الهراوي التبريزي المتوفى سنة 919 هجرية).( ) (ويحتمل أنه كان تلميذاً لزين الدين محمود، ثم انتقل مير علي سنة 1524م من هراة إلى بلاد الأوزبك في بخارى، حيث عمل على استمرار التقاليد التي أرستها مدرسة هراة في فنون الخط).( )
ونتيجة لانهماك الإيرانيين في فن الخط الفارسي الذي احتضنوه واختصوا به، فقد مرّ بأطوار مختلفة، ازداد تجذراً وأصالة، واخترعوا منه خطوطاً أخرى مأخوذة عنه، أو هي إن صح التعبير: امتداد له، فمن تلك الخطوط:
1 ـ خط الشكستة: اخترعوه من خطي التعليق والديواني. وفي هذا الخط شيء من صعوبة القراءة، فبقي بسبب ذلك محصوراً في إيران، ولم يكتب به أحد من خطاطي العرب أو ينتشر بينهم.
2 ـ الخط الفارسي المتناظر: كتبوا به الآيات والأشعار والحكم المتناظرة في الكتابة، بحيث ينطبق آخر حرف في الكلمة الأولى مع آخر حرف في الكلمة الأخيرة، وكأنهم يطوون الصفحة من الوسط ويطبعونها على يسارها. ويسمى (خط المرآة الفارسي)..
3 ـ الخط الفارسي المختزل: كتب به الخطاطون الإيرانيون اللوحات التي تتشابه حروف كلماتها بحيث يقرأ الحرف الواحد بأكثر من كلمة، ويقوم بأكثر من دوره في كتابة الحروف الأخرى، ويكتب عوضاً عنها. وفي هذا الخط صعوبة كبيرة للخطاط والقارئ على السواء( ).
لقد رأيت إبداع الإيرانيين في هذا الخط (الفارسي)، ويظهر ذلك الإبداع في الأوابد الأثرية والمساجد والحوزات والمآذن والقباب، وقصور الشاهات الصفويين، وفي جميع المدن التي زرتها عام 1996، وهي طهران،
أصفهان، مشهد الرضا، حيث رأيت ظاهرتين قد لا توجدان في بلد من بلدان العالم هما:
أولاً : نظافة المدن وجمالها وحسن تنسيق الشوارع وتنظيمها.
ثانياً : الخطوط والزخارف التي تملأ الشارع الإيراني.
يستعمل خط التعليق (الفارسي) في كتابة عناوين الكتب والمجلات والإعلانات التجارية، والبطاقات الشخصية واللوحات النحاسية.(ومن مميزاته ميل حروفه من اليمين إلى اليسار في اتجاهها من الأعلى إلى الأسفل).( )
ومن وجوه تطور الخط الفارسي (التعليق) مع خط النسخ أن ابتدعوا منهما خط (النستعليق) وهو فارسي أيضاً. وقد برع الخطاط عماد الدين الشيرازي الحسني في هذا الخط وفاق به غيره، ووضع له قاعدة جميلة، تعرف عند الخطاطين باسمه. وهي (قاعدة عماد).
كما اشتهر هذا الخط في مدينة مشهد حتى كان من أفضل الخطوط التي انفردت بها هذه المدينة، بل اشتهر خاصة في بلاد إيران دون غيرها. (ويمتاز الخط الفارسي باختلاف عرض حروفه، وبعض الحروف تكتب بثلث عرض القَطَّة، كما يمتاز بعدم تداخل حروفه مع حروف قلم آخر)( )..
وكان أشهر من كان يكتبه بعد الخطاطين الإيرانيين محمد هاشم الخطاط البغدادي والمرحوم محمد بدوي الديراني بدمشق.( )
ويبقى قصب السبق في هذا الخط للخطاطين الإيرانيين بلا منازع.
تعليقات
إرسال تعليق